جرت العادة أننا عندما نريد أن نعرف شيئا ما ، نسأل عن تاريخه (تاريخ تسميته، تاريخ حياته، تاريخ علاقاته، تاريخ صراعاته...). لعل هذا يدلنا على المعرفة الحقة بذلك الشيء الذي نريد أن نعرفه. سنسلك الطريق نفسه مع سؤال ما الفلسفة. ماذا تعني هذه الكلمة؟ أين بدأت؟ وكيف تطورت؟ وهل نستطيع أن نعرف ما الفلسفة إذا اكتفينا بتتبع مسارها التاريخي منذ لحظة ولادتها إلى يومنا هذا؟ هل يكفي أن نعرف تاريخ الفلسفة لنقول إننا عرفنا ما هي الفلسفة؟ هل يكفي أن نحفظ مقولات فلسفية عن ظهر قلب و نستظهرها في كل مرة، لنقول إننا نعرف الفلسفة؟ ربما قد نجد بعض الإجابات عن أسئلتنا إذا ما نحن تتبعنا تاريخ الفلسفة.
تقديم:
الفلسفة لفظ استعارته العربية من اللغة اليونانيّة، و ا صله في اليونانية كلمة تتألف من مقطعين :
الأول فيلوس Philos وهو بمعنى (صديق أو محب)، والثاني هو سوفيا Sophia أي (حكمة)، فيكون معناها (محب الحكمة).وبذلك تدل كلمة (الفلسفة) من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة أو إيثارها، وقد نقلها العرب إلى لغتهم بهذا المعنى في عصر الترجمة .
وكان فيثاغورس (572 _ 497ق.م) أول حكيم وصف نفسه من القدماء بأنه فيلسوف، وعرَّف الفلاسفة بأنهم الباحثون عن الحقيقة بتأمل الأشياء، فجعل حب الحكمة هو البحث عن الحقيقة، وجعل الحكمة هي المعرفة القائمة على التأمل . وعلى هذا أضحى تعريف الفلسفة بأنها: العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية .
تجدر الإشارة إلى أن كلمة (الفلسفة) استُعملت في معاني متعددة عبر التاريخ، واتسع معناها في بعض المراحل ليستوعب العلوم العقلية بأسرها، فيما تقلص هذا المعنى في مراحل أخرى فاستُعمل عند البعض كما في التراث الإسلامي فيما يخص الفلسفة الأولى، التي تبحث عن المسائل الكلية للوجود التي لا ترتبط بموضوع خاص .
من الوجهة التاريخية الأصلية، يمكن القول، بأن الإنسان بدأ يفكر تفكيرا منطقيا، عندما بدأ يفكر تفكيرا فلسفيا. ولقد بدأ الإنسان يفكر تفكيرا فلسفيا، حينما أخذ يبتعد ويتخلى عن التفكير الأسطوري القديم. فالفلسفة إذن، تعارض الشكل الخيالي للأسطورة، بالشكل المنطقي للعقل والمفهوم .
لكن العقل يستند في تفكيره، على مجموعة من المقولات والقواعد والصور الذهنية (des catégories logiques) ، مثل : العام والخاص،الوحدة والتنوع، الصدفة والضرورة، التماثل والاختلاف...
فالتفكير المنطقي يبدأ إذن لدى الإنسان، عندما تصبح تلك القواعد المنطقية تتحكم في حركة عقله، أي عندما يصبح قادرا على تمييز ما هو ثابت من خلال المتغير، والعام في إطار الخاص، والصدفة في الضرورة ... إلخ .
غير أنه لكي تظهر وتترسخ في الذهن مقولات : الثابت، المتماثل، العام، الضروري، فهذا يفترض مسبقا حصول وترسخ نوع من النظام والاستقرار داخل المجتمع البشري. وهذا بالضبط ما تحقق في المجتمع الطبقي القديم، وذلك عبر : ثبات الأعمال الحرفية، وانتظام التبادل في السوق، وتأطير العلاقات الاجتماعية في مؤسسات سياسية، وتنظيم التعليم... إلخ .
لقد دأب الكثير من مؤرخي الفلسفة على اختزال تاريخ الفلسفة الممتد عبر الزمان والمكان باليونان فقط، واعتبروا المنحى العقلي في الحضارة اليونانية هو بداية الوعي العقلي المنتظم في حياة الإنسان، وصار هذا الوعي معبراً عن البادرة الأولى للمعرفة الفلسفية في التاريخ حسب زعمهم .
بيد أن الإرث العقلي الذي عثر عليه خبراء الآثار في بقايا تراث وادي الرافدين، ووادي النيل، والصين، والهند، وغيرها من الأمم القديمة، برهن بشكل واضح على حضور الوعي الفلسفي فيما تم تفسيره من الكتابات على الألواح الطينية الكثيرة التي وصلتنا من تراث هذه الأمم. فمثلاً عثر المنقبون في وادي الرافدين على أكثر من مليون لوح طيني ترقد تحت طبقات الأرض من بقايا الحضارات السومرية والبابلية والآشورية.
ويمكن القول إن التفكير الفلسفي لا تتحدد نشأته بعرق أو جنس خاص من بني الإنسان، أو بقعة جغرافية محددة، وإنما هو ماثل في كل مكان وحاضر في حياة جميع الشعوب، فهو موجود في كل زمان ومكان حيثما كان الإنسان وعاش في مجتمع، بل نستطيع أن نؤكد أن هذا التفكير لا ينفصل عن الكائن العاقل، حتى إذا افترضنا أن الإنسان عاش وحيداً في جزيرة، كما دلل على ذلك الفيلسوف المسلم ابن طفيل المتوفى سنة 581 هـ في (حي بن يقظان). ذلك لان هذا التفكير إنما هو مظهر لنزوع العقل البشري لتفسير الواقع المحيط به والتعرف على أسراره، واكتشاف موقعه ومبدئه ومصيره كجزء من هذا الواقع، وتحديد وظيفته في ضوء هذه الرؤية .
إن التاريخ الصحيح للوعي الفلسفي يبدأ مع ظهور الكائن البشري العاقل على الأرض، لان هذا الكائن منذ تجربته الأولى في الحياة واستثمار الطبيعة، ما انفك يثير السؤال تلو السؤال عن مبدئه ومصيره وحقيقته، وحقيقة العالم المحيط به. وعلى هذا لا تتصف بالصواب أية محاولة تسعى لحذف دور البشرية بمجموعها في بناء الفكر الفلسفي، وربطه ببيئة ومحيط خاص، مثلما فعل معظم مؤرخي الفلسفة حين اختصروا تاريخ الحياة العقلية للإنسان بالفلسفة اليونانية، فيما تجاهلوا ما سواها، وبكلمة أخرى جرى تزوير لتاريخ الفلسفة، حين وقف عدد كبير من هؤلاء المؤرخين موقف الإهمال حيال التجربة العقلية الواسعة خارج إطار البيئة الأوروبية، فتغافلوا عن المصادر غير المعلنة للوعي الأوروبي، ولم يعلنوا عن جذور هذا الوعي وروافده، واعتُبِرَ الإنسان الغربي رائداً لأول تجربة عقلية في التاريخ. بينما لو حاولنا أن نقرأ تاريخ الوعي الفلسفي في حياة الإنسان، عبر تفكيك مكونات الفكر اليوناني وتحليلها، ثم إحالة كل عنصر منها إلى الروافد الأصيلة التي استقى منها، لرأينا أن ما لدى اليونان ما هو إلاّ ميراث يأتلف من عناصر متنوعة راكمتها انجازات حضارات سالفة ممتدة في أعماق الزمان .