في إحدى المدن بالمملكة كانت هناك امرأة تسكن مع زوجها و أولادها و
بناتها في إحدى الأحياء و كان المسجد ملاصق لبيتها تماما إلا أن الله
ابتلاها بزوج سكير .لا يمر يوم أو يومين إلا و يضربها هي و بناتها و
أولادها و يخرجهم إلى الشارع ، كان اغلب من في الحي يشفقون عليها و على
أبنائها و بناتها إذا مروا بها و يدخلون إلى المسجد لاداء الصلاة ثم
ينصرفون إلى بيوتهم و لا يساعدونها بشيء و لو بكلمة عزاء ، و كم كانوا
يشاهدون تلك المرأة المسكينة و بناتها و أولادها الصغار بجوار باب بيتها
تنتظر زوجها المخمور أن يفتح لها الباب و يدخلها بعد أن طردها هي و أولادها
و لكن لا حياة لمن تنادى ، فإذا تأكدت من انه نام جعلت أحد أبنائها يقفز
إلى الداخل و يفتح لها ، و تدخل بيتها و تقفل باب الغرفة على زوجها المخمور
إلى أن يستيقظ من سكره و تبدأ بالصلاة و البكاء بين يد الله عز وجل تدعو
لزوجها بالهداية و المغفرة لم يستطع أحد من جماعة المسجد بما فيهم إمام
المسجد و المؤذن أن يتحدث مع هذا الزوج السكير و ينصحه ، و لو من اجل تلك
المرأة المعذبة و أبنائها لمعرفتهم انه رجل سكير لا يخاف الله باطش له
مشاكل كثيرة مع جيرانه في الحي فض غليظ القلب لا ينكر منكرا و لا يعرف
معروف و كما نقول بالعامية ( خريج سجون ) فلا يكاد يخرج من السجن حتى يعود
إليه الزوجة المسكينة كانت تدعو لزوجها السكير في الثلث الأخير من الليل و
تتضرع إلى الله بأسمائه العلى و بأحب أعمالها لديه أن يهدي قلب زوجها إلى
الإيمان ، و اكثر أيامها كانت تدعو له بينما هي و أبناءها تعاني الأمرين
فلا أحد يرحمها من هذا العناء غير الله فلا اخوة و لا أب و لا أم يعطف
عليها الكل قد تخلى عنها و الكل لا يحس بها و بمعاناتها فقد أصبحت منبوذة
من الجيران و الأهل بسبب تصرفات زوجها . في إحدى المرات و بينما هي تزور
إحدى صديقاتها في حي آخر مجاور لهم تكلمت و فتحت صدرها لصديقتها و شرحت لها
معاناتها و ما يفعله بها زوجها و ببناتها و أبناءها إذا غاب تحت مفعول
المسكر ، تعاطفت معها قلبا و قالبا و قالت لها : اطمئني ، سوف اكلم زوجي
لكي يزوره و ينصحه و كان زوجها شاباً صالحا حكيماً و يحب الخير للناس و
يحفظ كتاب الله و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر فوافقت بشرط أن لا يقول
له بأنها هي التي طلبت هذا حتى لا يغضب منها زوجها السكير و يضربها و
يطردها من البيت إلى الشارع مرة أخرى لو علم بذلك ، فوافقت على أن يكون هذا
الأمر سر بينهما فقط . ذهب زوج صديقتها إلى زوجها بعد صلاة العشاء مباشرة
لزيارة زوج تلك المرأة و طرق الباب عليه فخرج له يترنح من السكر ففتح له
الباب فوجده إنسان جميل المنظر له لحية سوداء طويلة و وجه يشع من النور و
الجمال و لم يبلغ الخامسة و العشرين من عمره و الزوج السكير كان في
الأربعين من عمره على وجه علامات الغضب و البعد عن الله عز وجل فنظر إليه و
قال له : من أنت و ماذا تريد ؟ فقال له : أنا فلان بن فلان و احبك في الله
و جئتك زائرا و لم يكد يكمل حديثه حتى بصق في وجهه و سبه و شتمه و قال له
بلهجة عامية شديدة الوقاحة : لعنة الله عليك يا كلب ، هذا وقت يجئ فيه
للناس للزيارة ، انقلع عسى الله لا يحفظك أنت و اخوتك اللي تقول عليها
.كانت تفوح من الزوج السكير رائحة الخمرة حتى يخيل له أن الحي كله تفوح منه
هذه الرائحة الكريهة ، فمسح ما لصق بوجهه من بصاق و قال له : جزاك الله
خيرا قد أكون أخطأت و جئتك في وقت غير مناسب و لكن سوف أعود لزيارتك في وقت
آخر إن شاء الله ، فرد عليه الزوج السكير أنا لا أريد رؤية وجهك مرة أخرى و
إن عدت كسّرت رأسك و اغلق الباب في وجه الشاب الصالح و عاد إلى بيته و هو
يقول الحمد لله الذي جعلني اجد في سبيل الله و في سبيل ديني هذا البصاق و
هذا الشتم و هذه الإهانة ، و كان في داخله إصرار على أن ينقذ هذه المرأة و
بناتها من معاناتها أحس بأن الدنيا كلها سوف تفتح أبوابها له إذا أنقذ تلك
الأسرة من الضياع .فأخذ يدعو الله لهذا السكير في مواطن الاستجابة و يطلب
من الله أن يعينه على أنقذ تلك الأسرة من معاناتها إلى الأبد ، كان الحزن
يعتصر في قلبه و كان شغله الشاغل أن يرى ذلك السكير من المهتدين . فحاول
زيارته عدة مرات و في أوقات مختلفة فلم يجد إلا ما وجد سابقاً حتى انه قرر
في إحدى المرات أن لا يبرح من إمام بيته إلا و يتكلم معه فطرق عليه الباب
في يوما من الأيام فخرج إليه سكران يترنح كعادته و قال له : ألم أطردك من
هنا عدة مرات لماذا تصر على الحضور و قد طردتك ؟!!فقال له : هذا صحيح و
لكنى احبك في الله و أريد الجلوس معك لبضع دقائق و الله عز وجل يقول على
لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : من عاد أخ له في الله ناده مناد من السماء
إن طبت و طاب ممشاك و تبؤت من الجنة منزلا . فخجل السكير من نفسه أمام
الإلحاح هذه الشاب المستمر رغم ما يلاقاه منه و قال له و لكن أنا الآن اشرب
المسكر و أنت يبدو في وجهك الصلاح و التقوى و لا يمكنني أن اسمح لك لكي
ترى ما في مجلسي من خمور احتراما لك فقال له : ادخلي في مكانك الذي تشرب
فيه الخمر و دعنا نتحدث و أنت و تشرب خمرك فأنا لم آتي إليك لكي أمنعك من
الشرب بل جئت لزيارتك فقط فقال السكير : إذا كان الأمر كذلك فتفضل بالدخول
فدخل لأول مرة بيته بعد أن وجد الأمرين في عدم استقباله و طرده و أيقن أن
الله يريد شيئا بهذا الرجل . ادخله إلى غرفته التي يتناول فيها المسكر و
تكلم معه عن عظمة الله و عن ما اعد الله للمؤمنين في الجنة و ما اعد
للكافرين في النار و في اليوم الآخر و في التوبة و أن الله يحب العبد
التائب إذا سأله الهداية ثم تكلم في اجر الزيارة و ما إلى ذلك و أن الله
يفرح بتوبته العبد التائب فإذا سأله العبد الصالح قال الله له لبيك عبدي (
مرة واحدة ) و إذا سأله العبد المذنب العاصي لربه قال الله له لبيك لبيك
لبيك عبدي ( ثلاث مرات ) و كان يرى أسارير الرجل السكير تتهلل بالبشر و هو
ينصت إليه بجوارحه كلها و لم يحدثه عن الخمرة و حرمتها أبدا و هو يعلم إنها
أم الكبائر و خرج من عنده بعد ذلك دون كلمة واحدة في الخمر فأذن له
بالخروج على أن يسمح له بين الحين و الحين بزيارته فوافق و انصرف . بعد ذلك
بأيام عاد إليه فوجده في سكره ، و بمجرد أن طرق الباب عليه رحب به و ادخله
إلى المكان الذي يسكر فيه كالعادة فتحدث ذلك الشاب عن الجنة و ما عند لله
من اجر للتائبين النادمين و لاحظ بان السكير بدأ يتوقف عن الشرب بينما هو
يتكلم فأحس انه اصبح قريبا منه و انه بدأ يكسر أصنام الكؤوس في قلبه شيئا
فشيئا ، و أن عدم مواصلته للشرب دليل على انه بدأ يستوعب ما يقال له ،
فأخرج من جيبه زجاجة من الطيب الفاخر غالية الثمن فأهداها له و خرج مسرعاً و
كان سعيداً بما تحقق له من هذه الزيارة من تقدم ملحوظ . فعاد بعد أيام
قليلة لهذا الرجل فوجده في حالة أخرى تماما و أن كان في حالة سكر شديدة و
لكن هذه المرة بعد أن تكلم الشاب عن الجنة و ما فيها من نعيم اخذ يبكي
السكير كالطفل الصغير و يقول لن يغفر الله لى أبدا ، لن يغفر الله لى أبدا و
أنا اكره المشائخ و أهل الدين و الاستقامة و اكره الناس جميعا و اكره نفسي
و إنني حيوان سكير لن يقبلني الله و لن يقبل توبتي حتى و إن تبت ، فلو كان
الله يحبني ما جعلني أتعاطى المسكرات و لا جعلني بهذه الحالة و هذا الفسق و
الفجور الذي أعيش فيه من سنوات مضت ، فقال له : الشاب الصالح و هو يحتضنه
إن الله يقبل توبتك و إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له و إن باب التوبة
مفتوح و لن يحول بينك و بين الله أحد و إن السعادة كلها في هذا الدين و إن
القادم سوف يكون اجمل لو سألت الله الهداية بقلب صادق مخلص و ما عليك إلا
أن تسأل الله مخلصا في طلب الهداية و الله عز وجل يقبلك و أن قيمته عند
الله عظيمة ، و أشار إليه بأنه على سفر الآن مع مجموعة من أصدقائه المشائخ
إلى مكة المكرمة و عرض عليه أن يرافقهم فقال له : السكير و هو منكسر القلب و
لكن أنا سكران و أصدقائك المشائخ لن يقبلوا بمرافقتي فقال له : لا عليك هم
يحبونك مثلي و لا مانع لديهم أن ترافقهم بحالتك الراهنة فكل ما في الأمر
هو أن نذهب إلى مكة المكرمة للعمرة فإذا انتهينا عدنا إلى مدينتنا مرة أخري
و خلال رحلتنا سوف نسعد بوجودك بيننا فقال السكير : و هل تسمحون لى إن اخذ
زجاجتي معي فأنا لا استغني عنها لحظة واحدة فقال له : الشاب الصالح بكل
سرور خذها معك إن كان لابد من أخذها . كانت نظرة هذا الشاب الصالح بعيدة
جدا جدا رغم خطورة إن يحمل زجاجة الخمر في سيارته و أن يحمل معه شخصا سكيرا
و سكران في نفس الوقت فالطريق إلى مكة ممتلئ بدوريات الشرطة و لكنه قرر
المجازفة من اجل إنقاذ هذه المرأة و أبناءها فمن يسعى لتحقق هدف عظيم تهون
عنده الصغائر . فقال له : قم الآن و اغتسل و تؤضأ و البس إحرامك فخرج إلى
سيارته و أعطاه ملابس الإحرام الخاصة به على أن يشترى هو غيرها فيما بعد ،
فأخذها و دخل الى داخل البيت و هو يترنح و قال لزوجته أنا سوف اذهب إلى مكة
للعمره مع المشائخ فتهللت أسارير زوجته فرحا بهذا الخبر و أعدت حقيبته و
دخل إلى الحمام يغتسل و خرج ملتفا بإحرامه و هو مازال في حالة سكره و كان
الرجل الشاب الصالح البطل المغامر يستعجله حتى لا يعود في كلامه فلا
يرافقهم و لم يصدق أن تأتي هذه الفرصة العظيمة لكي ينفرد به عدة أيام و
يبعده عن السكر و أصدقاء السوء فلو أفاق فربما لن يذهب معهم أو يدخل
الشيطان له من عدة أبواب فيمنعه من مرافقته فعندما خرج إليه أخذه و وضعه في
سيارته و ذهب مسرعاً به بعد أن اتصل على أصدقائه من الاخوة الملتزمين
الذين تظهر عليهم سمات الدين و الصلاح و التقوى لكي يمر عليهم في منازلهم و
يصطحبهم في هذه الرحلة التاريخية . انطلقت السيارة باتجاه مكة المكرمة ، و
كان الشاب الصالح على مقودها و بجواره السكير و في المقعدة الخلفية اثنان
من أصدقائه الذي مر عليهم و أخذهم معه ، فقرأوا طوال الطريق قصار السور و
بعض الأحاديث النبوية من صحيح البخاري و كلها في التوبة و في الترغيب و
الترهيب بما عند الله من خير جزيل و في فضائل الأعمال ، كان السكير لا يعرف
قراءة الفاتحة و ( يلخبط ) بها و يكسر فيها كيفما شاء ، و عندما يأتي
الدور عليه يقرءونها قبله ثلاثة مرات حتى يصححوا له ما اخطأ فيها بدون أن
يقولون له أنت أخطأت و أنه لا يعقل أن يخطئ أحد في الفاتحة ، و هكذا حتى
انتهوا من قراءة قصار السور عدة مرات ، و قرأوا الأحاديث المختلفة في فضائل
الأعمال و هو يسمع و لا يبدي حراك و قبل الوصول إلى مكة قرروا الثلاثة
الأصدقاء أن لا يدخلوا مكة إلا وقد أفاق تماما صاحبهم من السكر فقرروا
المبيت في إحدى الاستراحة على الطريق بحجة انهم تعبوا و يريدون النوم إلى
الصباح و من ثم يواصلون مسيرهم و كان يلح عليهم بأنه بإمكانه قيادة السيارة
على أن يناموا هم أثناء قيادته السيارة فهو لن يأتيه النوم أبدا فقالوا له
جزاك الله خير و بارك الله فيك نحن نريد أن نستمتع برحلتنا هذه بصحبتك و
أن نقضى اكبر وقت ممكن مع بعضنا البعض فوافق على مضض و دخلوا إحدى
الاستراحات المنشرة على الطريق و اعدوا فراش صاحبهم السكير و جعلوه بينهم
حتى يرى ما سوف يفعلونه فقاموا يتذاكرون آداب النوم و كيف ينامون على السنه
كما كان المصطفي عليه الصلاة و السلام ينام و كان ينظر إليهم و و يقلدهم و
ما هي إلا بضع دقائق حتى نام ذلك السكير في نوم عميق . استيقظوا الثلاثة
قبل الفجر و اخذوا يصلون في جوف الليل الأخير و يدعون لصاحبهم الذي يغط في
نومه من مفعول الكحول و كانوا يسجدون يبكون بين يدي الله إن يهديه و يرده
لدينه ردا جميلا و بينما هو نائم إذا استيقظ و رآهم يصلون قبل الفجر و
يبكون و يشهقون بين يدي الله سبحانه و تعالى فدخل في نفسه شيئا من الخوف و
بدأ يستفيق من سكره قليلا قليلا ، و كان يراقب ما يفعلوه الشباب في الليل
من تحت الغطاء الذي كان يخفى به جسده الواهي و همومه الثقيلة و خجله الشديد
منهم و من الله عز وجل . فأخذ يسأل نفسه كيف اذهب مع أناس صالحين يقومون
الليل و يبكون من خشية الله و ينامون و يأكلون على سنه المصطفى صلى الله
عليه و سلم و أنا بحالة سكر ، و تتشابك الأسئلة في رأسه حتى بدأ غير قادر
على النوم مرة أخرى ، بعد فترة من الزمن أذن المؤذن للفجر فعادوا إلى فرشهم
و كأنهم ناموا الليل مثل صاحبهم و ماهي إلا برهة حتى ايقضوه لصلاة الفجر و
لم يعلموا بأنه كان يراقب تصرفاتهم من تحت الغطاء فقام و تؤضأ و دخل
المسجد معهم و صلى الفجر و قد كان متزنا اكثر من ذي قبل حيث بدأت علامات
السكر تنجلي تماما من رأسه فصلى الفجر معهم و عاد إلى الاستراحة بصحبه
أصدقائه الذين احبهم لصفاتهم الجميلة و تمسكهم بالدين و إكرامهم له و
التعامل معه بإنسانية راقية لم يرها من قبل . بعدها احضروا طعام الإفطار و
كانوا يقومون بخدمته و كأنه أمير و هم خدم لديه و يكرمونه و يسلمون على
رأسه و يلاطفونه بكلمات جميلة بين الحين و الحين ، فشعر بالسعادة بينهم و
اخذ يقارن بينهم و بين جيرانه الذين يقول بأنه يكرههم ، انفرجت أسارير
الرجل بعد أن وضع الفطور فتذاكروا مع بعضهم البعض آداب تناول الطعام و
الطعام موجود بين أيديهم هو يسمع ما يقال فأكلوا طعامهم و جلسوا حتى ساعة
الإشراق فقاموا وصلوا صلاة الإشراق و عادوا إلى النوم ثانية حتى الساعة
العاشرة صباحا لكي يتأكدوا من أن صاحبهم أفاق تماما من سكره ، و رجع لوضعه
الطبيعي فأنفرد بصاحبه قليلا و قال له : كيف أخذتني و أنا سكران مع هؤلاء
المشائخ الفضلاء سامحك الله سامحك الله ، ثم إني وجدت زجاجتي في السيارة
فمن أحضرها فقال له الشاب الصالح : أنا أحضرتها بعد أن رايتك مصر على أخذها
و انك لن تذهب معنا إلا بها فقال له : و هل شاهدها أصحابك فقال له : لا لم
يشاهدوها فهي داخل كيس اسود لا يظهر منها شيئا فقال الحمد لله انهم لم
يشاهدوها . تحركوا بعد ذلك إلى مكة و صاحبهم معهم و نفس ما قاموا به في
بداية رحلتهم قاموا به بعد أن تحركوا فقرءوا قصار السور و بعض الأحاديث في
الترغيب و الترهيب أثناء رحلتهم و لكن لاحظوا هذه المرة انه بدأ يحاول
قراءة قصار السور بشكل افضل من السابق و خلال الطريق تنوعت قراءاتهم فوصلوا
إلى مكة المكرمة و دخلوا إلى البيت الحرام و كانوا يكرمون صاحبهم السكير
كرما مبالغا فيه في بعض الأحيان أملا في هدايته فطافوا و سعوا و شربوا من
زمزم فستأذنهم أن يذهب إلى الملتزم فأذنوا له و ذهب امسك بالملتزم و اخذ
يبكي بصوت يخيل للشاب الصالح الذي كان يرافقه و يقف بجواره أن أركان الكعبة
تهتز من بكاء السكير و نحيبه و أن دموعه أغرقت الساحة المحيطة بالكعبة
فكان يسمع بكاءه فيبكي مثله و يسمع دعائه ، كان يئن و صاحبه يئن مثله ، كان
يدعو الله أن يقبل توبته و يعاهد الله أن لا يعود إلى الخمرة مرة أخرى و
أن يعينه على ذلك ، فلم يكن يعرف من الدعاء غير يارب ارحمني يارب أسرفت
كثيرا فارحمني أنت رب السماوات و الأرض إن طردتني من باب رحمتك فلمن التجأ
إن لم تتب على فمن سواك يرحمني يارب إن أبواب مغفرتك مفتوحة و أنا أدعوك
يارب فلا تردني خائبا .كان دعائه مؤثرا جدا لدرجه انه أبكى المجاورين له ،
كان بكائه مريرا جدا تشعر بان روحه تصعد إلى السماء حين يدعو ربه ، كان
يبكي و يستغيث حتى ظن صاحبه أن قلبه كاد أن ينفطر ، استمر على هذا المنوال
اكثر من ساعة و هو يبكى و ينتحب و يدعو الله و صاحبه من خلفه يبكى معه ،
منظر مؤثر فعلا حين يجهش بالبكاء رجلا تجاوز الأربعين و متعلق بأستار
الكعبة ، و اكثر ما جعله يبكى هو انه كان يقول يارب إن زوجتي اضربها و
اطردها إذا غبت في سكري فتب على يارب مما فعلت بها ، يارب إن رحمتك وسعت كل
شئ و اسالك يارب أن تسعني رحمتك ، يارب أنى اقف بين يديك فلا تردني صفر
اليدين ، يارب إن لم ترحمني فمن سواك يرحمني ، يارب إني تائب فاقبلني فقل
لي يارب لبيك لبيك لبيك عبدي ، يارب إني اسالك ، يارب انظر إلى فإنني ملأت
الأرض بالدموع على ما كان منى ، يارب إني بين يديك ، و ضيف عليك في بيتك
الحرام فلا تعاملني بما يعاملني بها البشر فالبشر ياربي إن سألتهم منعوني و
إن رجوتهم احتقروني ، يارب اشرح صدري و أنر بصيرتي و اجعل اللهم نورك
يغشاني و كره إلي حب الخمور ما أحييتني يا رب لا تغضب منى و لا تغضب علىّ
فكم أغضبتك بذنوبي التي لا تحصى و كنت أعصيك و أنت تنظر إلي . كان صديقه في
هذه الأثناء يطلب منه الدعاء له فكان يزداد بكاءه و يقول يارب أمن مثلي
يطلب الدعاء؟!! يارب إني عصيتك خمس و عشرين عاما فلا تتركني و لا تدعني
أتخبط في الذنوب ، يارب إني فاسق فاجر اقف ببابك فاجعلني من عبادك الصالحين
، يا رب إني اسالك الهداية و ما قرب إليها من قول أو عمل و أنا خاشع ذليل
منكسر بين يديك ، يارب إن ذنوبي ملأت الأرض و السماوات فتب على يا ارحم
الراحمين و اغفر جميع ذنوبي يارب السماوات و الأرض ، فيشهق و يبكي و أحيانا
يغلبه البكاء فلا تسمع إلا صوت حزين متقطع من النحيب و البكاء . أذن
المؤذن لصلاة العصر فجلسوا للصلاة و السكير التائب مازال متعلقا بأستار
الكعبة يبكي حتى أشفق عليه صديقه و أخذه إلى صفوف المصلين كي يصلي و يستريح
من البكاء ، أخذه معه و هو يحتضنه كأنه أمه أو كأنه أباه فصلي ركعتين قبل
صلاة العصر كانت كلها بكاء بصوت منخفض يقطع القلب و يدخل القشعريرة في
أجساد من حوله ، إن دعاء زوجته في الليل قد تقبله الله و أن دعاء الشاب
الصالح قد نفع و أثمر ، و أن دعاء أصدقائه في الليل له قد حقق المقصود من
رحلتهم ، إن الدعاء صنع إنسان آخر بين ليلة و ضحاها ، فبدأ يرتعد صاحبهم
خوفا من الله حين أحس بحلاوة الإيمان ، ان الدعاء في ظهر الغيب حقق النتيجة
التي تدله على الهداية ، لقد أشفق عليه أصحابه في هذه الرحلة من بكاءه ،
انقضت الصلاة و خرجوا يبحثون عن فندق مجاور للحرم و لازالت الدموع تملأ
وجهه ، كان أحدهم يحفظ القرآن عن ظهر قلب هو الآخر ، و كان متواضعا لدرجة
كبيرة جدا لا تراه إلا مبتسماً فعندما رأى إقبال صاحبهم التائب إلى الله
زاد في إكرامه و بالغ و أصر ألا يحمل حذاء ذلك التائب إلا هو و أن يضعه تحت
قدميه عند باب الحرم ، هذا التصرف من حافظ القرآن فجر في صدره أشياء لا
يعلمها إلا الله بل يعجز الخيال عن وصفها حين توصف. و فعلا حمل حذائهُ مع
حذائه و خرج به إلى خارج الحرم و وضعهما في قدميه و هو فرح بما يقوم به ،
استأجروا فندق مطل على الحرم ، و جلسوا به خمسة أيام و كان صاحبهم يتردد
على الحرم في كل الصلوات و يمسك بالملتزم و يبكى و يبكى كل من حوله ، و في
الليل كان يقوم الليل و يبكى فتبكى معه الأسرة و الجدران ، و لا تكاد تراه
نائما أبدا ففي النهار يبكى في الحرم و في الليل قائما يصلي و يدعو الله
بصوت يملؤه البكاء ، و بعد أن مضت رحلتهم عادوا إلى مدينتهم و هم في طريق
العودة طلب من صديقه أن يوقف السيارة قليلا فاوقفها بناء على طلبه فاخرج
التائب زجاجة الخمر من ذلك الكيس الأسود أمام صديقه و مرافقيه و سكب ما
فيها و قال لهم اشهدوا على يوم الموقف العظيم إني لن أعود إليها ثانية و
اخذ يسكب ما فيها و هو يبكى على ذنوبه التي ارتكبها و يعدد ما فعله
بأسبابها و كانت عيون مرافقيه تغرغر بالدموع و تحشر كلمات تنطق من أعينهم
لا يعرفون كيف يعبرون عنها فكانت الدموع ابلغ من لغة الكلام فبكوا . و
تحركوا بعد ذلك و هم يبكون مثله ، و بدأ الصمت يختلط بالنحيب و بدأ البكاء
يختلط بالبكاء ، و قبل أن يصلوا إلى مدينتهم قالوا له : الآن تدخل إلى بيتك
متهلل الوجه عطوفا رحيما بأهلك و أعطوه نصائح عديدة في كيفية التعامل مع
الأبناء و الزوجة بعد أن من الله عليه بالهداية و أن يلزم جماعة المسجد
المجاور له و أن يتعلم أمور دينه من العلماء ، فالله عز وجل يقبل توبة
التائب و يفرح بها و لكن الاستمرار على الهداية و التوبة من موجبات الرحمة و
الهداية فكان يقول و الله لن أعصى الله أبدا فيقولون له إن شاء الله و
الدموع تملأ أعينهم . وصل إلى بيته و دخل على زوجته و أبنائه و بناته و كان
في حال غير الحال التي ذهب بها لم تحاول الزوجة أن تخفى فرحتها بما شاهدته
فأخذت تبكى و تضمه إلي صدرها و اخذ يبكى هو الآخر و يقبل رأسها و يقبل
أبنائه و بناته واحدا تلو الآخر و هو يبكي ، و ماهي إلا فترة وجيزة حتى
استقام على الصلاة في المسجد المجاور له و بدأت علامات الصلاح تظهر عليه
فأصبح ذو لحية ناصفها البياض و بدأ وجهه يرتسم عليه علامات السعادة و
السرور و بدأ كأنه مولود من جديد . استمر على هذا الحال فترة طويلة ، فطلب
من إمام المسجد أن يساعد المؤذن في الآذن للصلاة يوميا فوافق و اصبح بعد
ذلك المؤذن الرسمي لهذا المسجد بعد انتقال المؤذن الرئيسي إلى الرفيق
الأعلى ، و بدأ يحضر حلقات العلم و الدروس و المحاضرات بالمسجد ثم قرر أن
يحفظ القران فبدأ بالحفظ فحفظه كاملا عن ظهر قلب و خلال هذه الفترة كان
صديقه الشاب الحليم يزوره باستمرار و يعرفه على أهل الخير و الصلاح حتى
اصبح من الدعاة الى الله و اهتداء على يديه العديد من أصدقائه الذين كانوا
يشربون الخمر معه فيما مضى ، و اصبح إمام للمسجد المجاور له .