كان بن علي خدوما طيعا في مواجهة «الإرهاب الإسلامي»، يمد المخابرات الأمريكية بأسماء أعدائها، الحقيقيين والمتخيَّلين، ونجح في «التعمير» على رأس «نظام مستقر»،
وهما عنصران كانا سيضمنان له رضا واشنطن حتى لو بقي على عرشه إلى يوم النشور...
دروس عديدة يمكن استخلاصها من سقوط واحد من أكثر الأنظمة العربية، بل العالمية، بوليسية، إن لم يكن أسوأها على الإطلاق، في بضعة أيام دون زعيم، بل كان «زعيم» الثورة هو محمد البوعزيزي، شاب جامعي مُنِع من بيع الخضر قبل أن ينتحر.
ربما ليس صدفة أن السيل قد بلغ الزبى -وربما مستويات أخرى- بسبب الضغط غير المحدود الذي مارسه نظام بن علي على الشعب التونسي، والذي نجح في إطالة عمر نظامه الدكتاتوري بركوبه أسطورة التنمية داخليا ومحاربة الإرهاب خارجيا.
تجربة النظام التونسي السابق في استئصال المعارضة الإسلامية في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي جعلته «زبونا» نجيبا في وقت لاحق لحملة جورج بوش وساهمت تلك «الزبونية» في صم أذانه عن أي انتقاد لخنقه الأنفاس «سواء من الداخل أو الخارج»، على حد تعبير السفير الأمريكي...
انتظر البيت الأبيض ساعات طويلة قبل إصدار بيانه المكتوب، الذي رحب فيه بتطورات تونس وأشاد فيه بإرادة الشعب التونسي، لكن الوزيرة هيلاري كلينتون، وقبل أيام بل ساعات من ساعة الصفر التونسية، كانت تقول: «إننا على الحياد هنا ولا نقف مع أي جانب»، وكأن الوقوف بين دكتاتور وشعب يتطلع إلى الحرية والكرامة يطرح بالفعل مسألة الخيار والاختيار. كما أعربت الوزيرة الأمريكية عن «القلق» المحتمَل من انعدام الأمن وعدم الاستقرار.
الوزيرة، ومعها باقي طاقمها من المتحدثين باسم مختلف الوزارات والرئيس نفسه، ملؤوا الدنيا ضجيجا -وما زالوا- حول «ثورة» الإيرانيين الغاضبين من نتائج الانتخابات الماضية. فقد أشاد المسؤولون الأمريكيون بتوظيف انتفاضة الإيرانيين تقنيات التواصل الحديثة، كما حدث في تونس، كما أن واشنطن، الرسمية والإعلامية، لم تتردد لحظة واحدة في اتخاذ موقف مضاد لأحمدي نجاد ومؤيد لمعارضيه، كما ترددت في اتخاذ موقف من ثورة تونس.
كما أن حالة الوهن العربي العام أفرزت أحيانا أدبيات سياسية وعقلية تحليل متهافتة تعطي واشنطن قدرات أسطورية في تقرير مصير الشعوب العربية وإطالة عمر حاكميها، ولا تقل قوة واشنطن الخارقة، في نظر هؤلاء، سوى عن قدرة «الموساد» على تغيير «الطقس» أو خنق «المجاري» في أي عاصمة عربية.
في مصر، رائدة الفكر العربي المتنور في النصف الأول من القرن الماضي، نسمع الآن عن مسؤولية «الموساد» في كل كبيرة وصغيرة من أمراض الشقيقة الكبرى، من ارتفاع سعر «العِيش» إلى ابتلاع سائحين من طرف سمك القرش، ومن توريث العرش إلى التطاحن الطائفي.
في السعودية، «اعتُقل» مؤخرا أحد الطيور الجارحة واعتُبر الاعتقال إنجازا كبيرا ضد «الموساد»، لأن السلطات الساهرة هناك وجدت قرصا صغيرا باللغة العبرية على الطائر الذي كان موضع بحث علمي من جامعة تل أبيب .
وفي السياسة، لا يكاد يدور حديث مع أي «محلل» عربي دون أن يجزم المحلل -كبيرا كان أم صغيرا- أن واشنطن «عيّنت» هؤلاء الحكام وهي المسؤولة عن بقائهم.
صحيح أن هؤلاء الحكام «يتطوعون» بخدماتهم لدعم حروب واشنطن، باردة كانت أم ساخنة، وحاليا لدعم حربها على «الإرهاب»، لنيل رضاها، وهي خدمات قلما وفرتها أي فئة أخرى من الحكام في أي منطقة من العالم، لكن واشنطن لن تستطيع إبقاء أقواهم يوما واحدا في السلطة، إذا غضب الشعب أو حتى إذا غضب أحد جنرالاتهم.
كان بن علي خدوما طيعا في مواجهة «الإرهاب الإسلامي»، يمد المخابرات الأمريكية بأسماء أعدائها، الحقيقيين والمتخيَّلين، ونجح في «التعمير» على رأس «نظام مستقر»، وهما عنصران كانا سيضمنان له رضا واشنطن حتى لو بقي على عرشه إلى يوم النشور...
الفرق بين بن علي وأحمدي نجاد -في نظر واشنطن- هو أن الأول كان خدوما طيعا والثاني خصم مشاغب
-بالإضافة إلى عدائه «اللفظي» لإسرائيل طبعا- وبالتالي، يتعين حماية الأول، رغم مشاكله وتعقب سقطات الثاني وشيطنته على طول الخط...
أما مسألة الديمقراطية، ورغم الشعارات المرفوعة في واشنطن، فلن تنفع الإيرانيين، كما أنها لم تُفد «التّْوانسة».
يفتقر حديث الرئيس الأمريكي، في رد الفعل الذي طال انتظاره عن «تصفيقه» لشجاعة وكرامة الشعب التونسي، إلى الكثير من المصداقية الأخلاقية في امتحان ستواجهه واشنطن مرارا في المستقبل القريب، دون أن تجد حتى الآن توازنا بين الدفاع عن كرامة الشعوب ودعم قاهري تلك الشعوب.
حاولت واشنطن مع صدام حسين والعقيد القذافي، لسنوات طويلة، إزاحتهما ـكما تحاول مع الإيرانيين ـ لكنها لم تنجح، في العراق على الأقل، إلا بعد أن دمرت البلد وقتلت أكثر من مليون عراقي وخمسة آلاف جندي أمريكي وأنفقت أكثر من تريليون دولار.
ولا يبدو أن واشنطن مستعدة أو قادرة على تكرار ذلك السيناريو الدموي لحماية أو إزاحة أي نظام آخر، في المستقبل القريب على الأقل. لكن التفسيرات المؤامراتية التي تمنح واشنطن و«الموساد» كل هذه القوة الخارقة لا تحيد عن المنطق والحقيقة فحسب، بل تعمق شعورا بالعجز لدى الإنسان العربي، ما دام يواجه قوى أسطورية لا قبل له بها.
لم تستطع واشنطن حماية بن علي من غضب شعبه، كما لم تستطع حماية شاه إيران من غضبة شعبية مماثلة، وكان الإمبراطور الراحل أقربَ إلى قلبها ومصالحها من بن علي بمراحل عدة.
أجمل ما في الثورة التونسية، التي تعددت أسماؤها، أنها أسقطت هذه «الأسطورة» وكشفت عجز أدوات النظام القمعية وعجز كل من باريس وواشنطن عن إعادة تغيير الأوضاع، حينما تخرج عن السيطرة وحينما يتعدى الصبر حدوده المنطقية.
واشنطن تستعيد فصاحتها
تصرف الفرنسيون، الذين لا يدّعون على الأقل أسسا أخلاقية في دبلوماسيتهم الخارجية ولا يسعون إلى نشر مبادئ ثورتهم المتنورة في مستعمراتهم السابقة، على ذلك المنوال ولم يخلقوا مفاجآت تذكر، رغم تأثيرهم ونفوذهم الأقوى من الأمريكيين في تونس.
الرئيس نيكولا ساركوزي الذي يحتفظ في ألبومه الرئاسي بصورة له مع السيد بن علي على مدخل الإيليزي، في لقطة معبرة عن مدى الحميمية في علاقة الرجلين، رفض حتى استضافة «زميله» السابق، بل طلب من أسرته الرحيل عن «عاصمة الأنوار»...
أما جاك شيراك -سلف السيد ساركوزي- فكان قد حسم في معضلة حقوق الإنسان في تونس، حينما عرّف حقوق الإنسان يوما بأنها حقوق الأكل والتعليم والمأوى واستخلص على أساس ذلك التعريف المنقوص أن حقوق الإنسان في تونس في «وضعية متقدمة للغاية».
لكن للأمريكيين قصة مختلفة تماما مع الأخلاق والديمقراطية منذ الحرب الباردة نجحوا خلالها، وحتى الآن، في مهاجمة أعدائهم منذ أيام الشيوعيين لتلك الأسباب الأخلاقية، لكنْ في الوقت نفسه حماية «زبنائها» من الجنرالات الدمويين في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط، لأنهم يقتلون اليساريين.
أصبح العالم العربي آخر منطقة في العالم تمارس فيها واشنطن هذا النفاق المفلس أخلاقيا، بدعمها أنظمة دكتاتورية، بدعوى محاربة الإسلاميين، لكن الوعي يعود إليها، مؤقتا، أثناء الخطب السياسية أو بعد فوات الأوان، كما حصل إزاء الأوضاع في تونس.
رئيسة الدبلوماسية الأمريكية، التي أعلنت في طريقها إلى منطقة الخليج أثناء اشتعال الأوضاع في تونس، أنها «لا تأخذ موقفا» انطلق لسانها فجأة في الدوحة، بعد أن تأكدت واشنطن من أن طائرة بن علي قد حطّت، أخيرا، في جدة.
أعلنت الوزيرة الأمريكية، أمام مخاطَبيها العرب، أن «الأسس التي تقوم عليها المنطقة بدأت تغرق في الرمال»، داعية إلى خلق مساحات يطالب بها الشبان للمشاركة في قضايا الشأن العام والقضايا التي تؤثر على حياتهم. ولم تنس الوزيرة خصومها طبعا، مذكّرة الحضور بأن «الذين يحاولون استغلال اليأس والفقر موجودون بالفعل ويتنافسون على التجنيد والتأثير».
لكن فصاحة الوزيرة ومتحدثي البيت الأبيض والخارجية كانت غائبة في شجب النظام التونسي بعد إطلاقه النار على المتظاهرين وخانت المتحدثين الأمريكيين لغة الشجب التي لم تستخدم ضد إيران فحسب، بل ضد بورما وصربيا وأوكرانيا.
وذهبت الحكومة الأمريكية إلى حد تقديم دعم مالي للمتظاهرين في كل من صربيا وأوكرانيا، لأنها تناصب حكومتي البلدين العداء، وليس حبا في تعميم ما يتمتع به شعبها...
لكن الكونغرس، وبعد اشتعال شوارع تونس، كان يدرس إمكانية منح الحكومة التونسية ـوليس المتظاهرين- دعما ماليا «أمنيا» بـ12 مليون دولار، ضمن خمس دول تحظى بذلك الدعم الأمني المباشر، وهي إسرائيل ومصر والأردن وكولومبيا.
ثورة فرنسية على الطريقة التونسية؟
كان أحد الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين قد رحب، ساخرا، بتسريبات «ويكليكس» ـبعد أن شارك في كتابة بعضها شخصيا- معربا عن الاعتقاد أنها الفرصة الذهبية الوحيدة أمام هذه الوثائق للقراءة، لأن السلطات المركزية في واشنطن لا تقرؤها. ووصفت مجلة «السياسة الخارجية» أو «فوريين بوليسي» الجادّة، ثورة التونسيين بأول ثورة لـ«ويكليكس».
قرأ شبان الثورة التونسية قصاصات الدبلوماسيين الأمريكيين في بلدهم بل أسسوا لها موقعا إلكترونيا خاصا وتبادلوا خلالها روايات البذخ الأسطوري الذي يرفل فيه أصهار النظام وزبانيته، في حين يتضور الخريجون الجامعيون جوعا.
لا يمكن تأخر أو تردد الأمريكيين في رد الفعل أن يعزى -بأي حال من الأحوال- إلى جهلهم بما كان يجري وراء أسوار مملكة بن علي «الخضراء»، إلا إذا صدقنا رواية الدبلوماسي الأمريكي السابق أو إذا كانوا لا يقرؤون إلا ما يمتع فضولهم بشأن كون النظام حليفا في مكافحة الإرهاب.
اتخذ السفير الأمريكي روبرت غوديك، الذي عمل في تونس أيام جورج بوش واستمر في منصبه حتى بعد وصول باراك أوباما، من فساد النظام التونسي موضوعا رئيسيا لمراسلاته مع واشنطن دون أن يرفع كبار مسؤولي المصالح المركزية عقيرتهم بالتحذير من عواقب غليان البركان.
أخبر السيد غوديك رؤساءه، أيام السيدة غوندوليزا رايس، أن «أسرة السيد بن علي الكبيرة يشار إليها دائما على أنها أصل الفساد.» وفي قصاصة وصلت هذه المرة إلى هيلاري كلينتون والرئيس أوباما، حسب مقاييس كثيرة، يتعين على تونس أن تكون حليفة قوية للولايات المتحدة، لكنها ليست كذلك، إنها أمة غير مستقرة».
وصف السفير حفل عشاء دعي إليه في بيت ابنة الرئيس، نسرين، وزوجها، شاكر المطيري، في بيتهما الفخم على الشاطئ في بلدة الحمامات -البيت الذي هاجمه وأحرقه المتظاهرون حتى قبل رحيل بن علي.
بعد أن أعرب السفير عن إعجابه الكبير، المشوب بالصدمة، بفخامة البيت، انتقل إلى وصف محتوياته القيّمة من قِطع أثرية وأثاث فاخر في كل مكان، بما في ذلك الأعمدة الرومانية وصبيب الماء من فم الأسد في المسبح المطل على البحر...
قررت السيدة كريمة الزعيم وزوجها، الذي يتعامل مع كل شيء في تونس بمنطق «كل ما لديك هو ملكي»، حسب تعبير السفير الأمريكي، درءا، على ما يبدو، للملل، أن تتبنى نمرا متوحشا في القصر الفخم، اختارا له من الأسماء اسم «الباشا».
يلتهم سعادة «الباشا» يوميا أربع دجاجات كاملة لا تجد إحداها أُسَر تونسية مجتمعة، لكن السيد المطيري ربما أبلغ ضيفه الأمريكي بوجبة «الباشا» عن طريق التفاخر والظهور، وربما إظهار مدى رأفته بالحيوانات. لكن السفير الأمريكي ذكّره سلوك الأسرة الباذخ بما كانت تفعله ذرية صدام حسين في بغداد وكيف كان عدي «يربي» أسدا في عرين «مدجّن» داخل أحد قصوره في العراق.
لكن التهام «الباشا» أربع دجاجات يوميا، في وقت لا يجد خريج جامعي كالبوعزيزي مصدرا للرزق، بما في ذلك عربة مجرورة لبيع الخضر، تعيد إلى الأذهان سلوك ماري أنطوانيت، عشية ثورة الجياع الفرنسية.
مبالغة المضيفين في إكرام ضيفهما الأمريكيّ، بما في ذلك إحضار بعض الوجبات خصوصا من فرنسا، صدمت السفير الأمريكي وأقنعته على الطبيعية بأسباب كراهية الشعب التونسي لبن علي وأسرته وأصهاره.
في إحدى قصاصاته، كتب السفير الأمريكي عن تقدم بن علي في السن وغياب الوريث المحتمَل وعن مشاعر الإحباط الكبيرة التي تعم الشعب بسبب البطالة المرتفعة وغياب الحريات السياسية وفساد العائلة الأولى وعدم التوازن بين المناطق واعتماد الحكومة التونسية على المقاربة الأمنية في التعامل مع كل مشاكل البلاد.
مفاجأة العام الجديد
توقعت في أول رسالة من واشنطن هذا العام أن يشهد العالم العربي تغييرات كبيرة، ليس بصناديق الاقتراع ولكن بصناديق التوابيت، ولم يخطر ببالي أو ببال أي من مراقبي الشأن العربي أن يدخل الشعب التونسي -البطل التاريخ، كأول شعب عربي ينتفض ويطرد جلاديه.
كانت التوقعات المنطقية تنتظر رحيل الرئيس الأبدي، الذي شارف على أواسط السبعينات من العمر ويعاني من السرطان، أن يرحل إلى دار البقاء أو أن يتم إسقاطه «في أسوا الاحتمالات» بشهادة طبية، كما فعل شخصيا مع «المجاهد الأكبر».
وكان أقصى ما يتمناه المرء هو أن يؤدي اختفاؤه بالموت أو بالشهادة -الطبية- أو أن تكون الوفاة أو الغياب فاتحة عهد جديد على تونس، كما كانت وفاة الجنرال فرانكو على إسبانيا. لكن الثورة التونسية الكبيرة فاجأت الدكتاتور، قبل أن تفاجئ العالم كله، لأن المجتمع كان يغلي فوق بئر من الوقود، وجاء عود الثقاب الذي أشعله البوعزيزي ليفجر كل شيء.
بالنسبة إلي شخصيا، أدركت أن أيام بن علي أصبحت معدودة حينما رأيت صور المتظاهرين تتوجه بشجاعة نادرة إلى مقر وزارة الداخلية المخيفة في قلب تونس العاصمة، والتي لم تشهد تعذيب مناوئي النظام فحسب، بل تحولت البناية نفسها إلى رمز للرعب.
أذكر أنني كنت في تونس عام 1994 في مهمة صحافية موفدا من إذاعة «صوت أمريكا»، لتغطية آخر قمة مغاربية تعقد في تونس ومشيت خطأ على الطوار المحاذي للوزارة المرعبة، دون أن أنتبه إلى أنني لم أقرأ أي لوحة تمنع ذلك، إلى أن فوجئت بشرطي مدجج بسلاح أوتوماتيكي ينهرني ويأمرني بعبور الطريق والمشي في الطوار المقابل.لم تكن الوزارة مخيفة من الداخل فحسب، بل عمل النظام على أن تكون مرعبة في الخارج أيضا، كرسالة «لكل من تسول له نفسه»...
في الرحلة نفسها، قدر لي أن أرى سلاحا آخر هذه المرة لحرس الرئاسة على باب قصر قرطاج، مقر انعقاد المؤتمر حينما بدا لي منظر البحر جميلا من مدخل القصر، فرفعت ببلاهة آلة تصويري الصغيرة لالتقاط صورة للبحر، قبل أن يلتقطني من استمتاعي بالمنظر الجميل صراخ العسكري المدجج بالسلاح وغاضب الملامح، يأمرني بعدم التقاط صورة للبحر!...
لكن أبلغ ما أذكره من تلك الرحلة عن قسوة النظام البوليسي السابق في تونس جاء نتيجة سؤالي الغبي في أول صباح أستفيق فيه في البلد، حينما سألت صاحب الدكان الصغير الذي يبيع الجرائد داخل الفندق الذي كنت أقيم فيه إذا كانت لديه جرائد للمعارضة!...
نظر إلي صاحب الدكان بابتسامة ذكية وخفيفة لكنها كانت بليغة في «جوابها»، وبعد أن تأكد من خلو المكان، أردف بلكنته التونسية اللطيفة: «هل أنت تضحك يا خويا»؟!...
تذكرت هذه الحادثة الصغيرة بعد أن قرأت مؤخرا ما كتبته صحافية أمريكية مخضرمة وعلى اطلاع جيد بالعالم العالم العربي في معرض حديثها على هروب بن علي في «واشنطن بوست» ونقلت عن زميل فرنسي عاد لتوه من تونس قوله إن «جميع الصحف التونسية تمجد بن علي وكأن أمه هي التي تكتب المقالات»!...
غياب الزعيم البديل
يضع جميع أحرار العالم أيديهم على قلوبهم، متمنّين نجاح التونسيين في تجاوز هذه المرحلة الانتقالية، التي قد تصبح أكثر صعوبة من التخلص من قيود بن علي وزبانيته من الحرس الرئاسي والاستخباراتي.
لا يتحمل النظام الدكتاتوري الغابر جرائم بالجملة ضد شعبه فحسب، بل «نجح» أيضا، كباقي الدكتاتوريات العربية، في سحق أي معارضة جدية أو أمل في ظهور زعيم ذي مصداقية وشعبية، بعد أن تفرق شملهم بالموت أو المنافي أو التدجين...
السيناريو التونسي في زمن ما بعد الدكتاتور مرشح للتكرار في أكثر من عاصمة من «الجمهوريات الملكية» العربية، مما يعزز فرص الأبناء -من الناحية النظرية على الأقل- أو فرص تدخل الجيش -أو لا قدر الله- الفوضى، كما وقع في يوغوسلافيا والصومال. لكن الجماهير التونسية أظهرت، حتى الآن، تحضرا واستقامة غير مسبوقتين في مثل هذه الأحداث، حتى بعد مواصلتها الاحتجاج على مخلفات الدكتاتورية بعد رحيل الدكتاتور.
ومن حسن حظ الأمريكيين أن ثورة «التّْوانسة» غير المسبوقة في العالم العربي لم تتبنَّ خطابا معاديا لأمريكا، كما كانت تخشى واشنطن. كما أن «الخوانجية» ـ وهو التعبير الذي استخدمه بن علي قبل ساعات من رحيله- لم يلعبوا، ومن غير المتوقع أن يلعبوا الدور الحاسم في زمن ما بعد بن علي.
تدفع مواصلة شبان مصريين وجزائريين وموريتانيين إحراق أنفسهم، بسبب الفقر واليأس، إلى الاعتقاد أن البوعزيزي أشعل بعود ثقابه عهدا جديدا في العالم العربي يفوق ما فعلته الدعوات الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده ودعوات دمقطرة العالم العربي، التي رفعها جورج بوش -الابن.
قد لا يحدث انتقال ثورة تونس إلى العالم العربي بالسرعة التي يتمناها البعض، لكن الشروط الموضوعية موجودة في أغلب دول العام العربي لاشتعالها في آخر لحظة، وفي أي لحظة.
كتبت «لوموند» الفرنسية عن أوضاع تونس: «ما كان مستحيلا تصوره قبل بضعة أيام فقط، يقع الآن بسرعة جنونية».
وقال أحد الناشطين السياسيين السودانيين لوكالة «أسوشييتد برس»: «تبدو الأوضاع التي تسببت في انتفاضة تونس متواضعة للغاية بالمقارنة مع ما نعيشه نحن: لقد قسم بلدنا.. وفقدنا سيادتنا وتمت إهانتنا.. ويقع هذا في تونس، إنني اشعر بالمهانة»...
ثورة الفقراء والتكنولوجيا
لم يكون التونسيون بحاجة إلى قراءة قصاصات «ويكليكس»، لمعرفة أن بلدهم يقع تحت سيطرة «العائلة»، كما تسمى هنا منظمات الجريمة المنظمة، وأن السيدة الأولى -والحلاقة السابقة- قد وضعت، مع أسرتها، اليد على كل مصدر اقتصادي مربح في البلاد.
لم يكن النظام التونسي السابق زبونا نجيبا للغرب ولواشنطن تحديدا في مجال مكافحة الإرهاب فحسب، بل كان من أنجب دكتاتوريات العالم الثالث في تنفيذ نصائح المؤسسات المالية الدولية من خصخصة ورفع لدعم الحكومة عن المواد الأساسية للطبقات المحرومة. لكن تلك المؤسسات، ومن ورائها الحكومات الغربية وفي مقدمتها واشنطن، التي كانت تعمل نصائحها على إغناء فئة قليلة من آل بن علي والطرابلسي والمطيري في تونس وتُفقر باقي التونسيين، لم تتقدم بنصيحة لفتح مجالات التعبير وحريات الرأي.
وبالإضافة إلى حربها المعلنة على حرية التعبير والرأي، بمعناهما الكلاسيكي، أعلنت «العائلة» حربا على أدوات التواصل الحديثة، التي ستتحول في نهاية المطاف إلى أقوى وسيلة لحشد التأييد ضدها.
لم تكن الفضائيات العربية، التي لعبت دورا طلائعيا في متابعة الأحداث منذ حادث البوعزيزي في «سيدي بوزيد»، تجد سوى صور الهواتف النقالة لـ»تغطية» الحديث عن المظاهرات، وهي الصور التي لم تستطع أعين المخابرات إليها سبيلا. وكما في الاحتجاجات ضد الانتخابات في إيران، لعبت أدوات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، كـ«فيس بوك» و«تويتر»، دورا حاسما في التواصل بين الشبان الغاضبين وحشد الهمم حتى في مواجهة رصاص النظام.
وُوجِهت محاولات النظام خنق «حركة السير» على الأنترنت بحملات واسعة النطاق من مختلف أنحاء العالم، استهدفت المواقع الحكومية بل حتى الرئاسية، في حملة انتقامية شبيهة بما حدث انتقاما لاعتقال مؤسس «ويكليكس».
وبعد رحيل بن علي، أعلنت «قبائل الأنترنت» فرحتها بالانتصار واستبدل الكثير من مستعملي الشبكة غلاف مواقعهم بالعلم التونسي، الذي أصبح أكثر الأعلام شهرة على الشبكة العنكبوتية. وكان من مباعث الشفقة والحزن أن يظهر «الزعيم» في آخر خطاب له للأمة، وبعد إقراره بفهم «رسالة» الشعب، وهو يتعهد بمعاقبة حاشيته وتخفيض أسعار الزيت والسكر والدقيق، دون أن ينسى التعهد بـ»تحرير» الأنترنت!... ولم يكن أقل مدعاة للشفقة والحزن في مضامين خطب الزعيم الأخيرة اتهامه للمتظاهرين بـ»الإرهابيين والمأجورين». يمكن فهم تهمة الإرهاب في سياق سعيه إلى الاستنجاد بأصدقائه الفرنسيين والأمريكيين، لكن نعته المحتجين بـ«المأجورين» كان أمرا غريبا بالفعل، لأن المأجور يتلقى أجرا والذي يتلقى أجرا لا يحرق نفسه، يأساً، في مكان عامّ...