الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر عقيدة من العقائد التي أسسها الإسلام على الإيمان بالله عز وجل، وبناها على المعرفة الصحيحة لذاته العية سبحانه وصفاته العظمى. إن المؤمن ليدرك يقينا أن كل ما يجري في العالم لا يخرج عن مشيئة الله تعالى وإرادته سبحانه. فالله وحده صفات العلم الواسع، والإرادة الشاملة، والقدرة الكاملة، وأنه سبيحانه فعال لما يريد، عالم بما يفعل
كما أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان التي دل عليهما الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة
فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس : 12] وقوله جل شأنه: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد : 22] وقوله جل شأنه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر : 49].
وفي الأثر قال عبادة ابن الصامت لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله جل ثناؤه، القلم فقال له: اكتب، قال رب، وماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا فليس مني." (1)
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحاج آدم وموسى، فحج آدم موسى، قال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال له آدم: أنت يا موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم، قال: أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق." (2)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".(3)
إن المؤمن حقا هو الذي يسلم بقضاء وقدره ويرضى بهما على الإطلاق، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه تعالى السابق وإرادته الأزلية، ولا يقدم بين يديه بالإعتراض...(4)
مفهوم القضاء والقدر
أ- مفهوم القضاء:
القضاء هو عبارة عن إرادة الله تعالى الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال، وعلى هذا الأساس فهو من صفات الذات. وهو فرع عن صفة العلم والإرادة.
ويرد لفظ القضاء على أوجه كثيرة منها:
• القضاء بمعنى الخلق: قال تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : 12].
• القضاء بمعنى التسليط والخلق: قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) [سبأ : 14]، يعني خلقنا وسلطنا عليه الموت.
• القضاء بمعنى الإخبار والإعلام: قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) [الإسراء : 4]، يعني أعلمناهم وأخبرناهم.
• القضاء بمعنى الأمر: قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء : 23].
• القضاء بمعنى الحكم والإلزام: يقال: قضى الفاضي على فلان بكذا وكذا أي أوجبه عليه وألزمه إياه وخكم عليه به... (5)
ب- مفهوم القدر:
القدر هو عبارة عن إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده الله تعالى، وعلى هذا الأساس فهو من صفات الأفعال. وهو فرع عن صفة القدرة.
انطلاقا من هذا التحديد فإن القضاء والقدر يرجع إلى صفتي العلم والإرادة وتعلق القدرة، وعلى هذا الأساس يتحدد مفهوم الإيمان بالقضاء والقدر، فيجب على المكلف أن يؤمن بأن الله سبحانه علم أزلا بجميع أفعال العبد، وهذا مدلول لفظ القضاء، وخصص بإرادته سبحانه وتعالى هذه الأفعال على وفق العلم وهذا مدلول لفظ القدر، وأنه أوجدها حين أوجدها فيما لا يزال على القدر المخصوص والوجه المعين الذي سبق العلم به وخصصته الإرادة وهذا هو مدلول تعلق القدرة.(6)
يتحدد مفهوم القضاء والقدر من خلال صفتي العلم والقدرة، " فالقضاء فرع عن ثبوت صفة العلم والإرادة لله عز وجل. والقدر فرع عن ثبوت صفة القدرة له". (7)
وعلى هذا الأساس فالإيمان بالقدر هو الإيمان بتقدم علم الله سبحانه بما يكون من أكساب الخلق وغيرها من المخلوقات وصدور جميعها عن تقرير منه وخلق لها خيرها وشرها.(8)
والقضاء إيجاد تلك الأشياء بالفعل طبقا لعلمه تعالى الأزلي المتعلق بها. (9)
ويحدد القدر كذلك بأنه:" النظام المحكم الذي وضعه الله لهذا الوجود ، والقوانين العامة والسن التي ربط الله بها الأسباب بمسبباتها.(10)
وإذا كان الإيمان بالقضاء والقدر جزءا من العقيدة الإسلامية فليس معنى ذلك إجبار الخلق على ما قدره سبحانه وقضاه، لأن علمه تعالى بما سيقع ووقوعه على حسب هذا العلم لا تأثير له في إرادة العبد، ما دام العلم مجرد صفة انكشاف لا صفة تأثير.(11)
وبسبب إغفال هذه الحقيقة العلمية وقع خلط والتباس في المفاهيم العقدية، فحل الجبر محل الاختيار، وأخذ الاختيار مكان الجبر، وغابت عقيدة التوسط التي نادى بها البناة من مفكري الأشاعرة عن طريق عقيدة الكسب التي تستمد مضمونها العقدي وصورتها البرهانية التدليلية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الصحيحة.