[الطرح الإشكالي
مدخل إلى الفلسفة أم دخول في الفلسفة: لماذا نشرع - على غير عادتنا في المواد الأخرى – في دراسة الفلسفة بطرح السؤال "ما الفلسفة؟"؟
إنطلاقا من هذه الملاحظة يمكن أن نتقدم بالفرضيات التالية حول الفلسفة :
- يبدو أن هناك إختلافا حول تعريف الفلسفة أو أن تعريفها جزء أساسي من الممارسة الفلسفية؛
- يبدو أن السؤال يحتل مكانة مركزية في الفلسفة، وقد يكون أحد أهم أدواتها. وإذا صح هذا الأمر، نكون بطرحنا لهذا السؤال قد وضعنا أنفسنا ، لاعلى باب الفلسفة، بل في قلبها !!؛
- يبدو أخيرا أن الفلسفة لاتتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها.
لفحص هذه الفرضيات يتعين أولا أن نشرع في محاولة تعريف الفلسفة وتحديد خصائصها؛ وبما أن تحديد وظيفة الشيء جزء من تعريفه، يتعين علينا ثانيا أن تحديد دورها ووظيفتها.
محاولات لتعريف الفلسفة التعرف على الفلسفة من خلال الدلالة الإشتقاقية لكلمة "فلسفة"
"الفلسفة" كلمة يونانية Philosphia تتركب من شقين Philo وتعني المحبة، الميل، الصداقة... ثم Sophia وتعني الحكمة. وليست الحكمة مجرد العلم: إذ نجد لها مستويين: مستوى نظري وهو الحكم السديد والعلم الشامل ببواطن الأمور ومبادئها وعللها؛ ومستوى عملي أخلاقي يتجلى في الفضيلة والسلوك المسترشد بمبادئ أخلاقية. وإذا كان الفيلسوف يدعو نفسه محبا للحكمة وينأى بنفسه عن أن يكون حكيما، ففي ذلك دلالة واضحة على التواضع المعرفي الذي يجعل الفلسفة – كما يقول كارل يسبرزJaspers – بحثا عن المعرفة والحقيقة وسعي نحو الفضيلة وليست إمتلاكا لهما.
وتجمع أغلب المصادر التاريخية على أن فيثاغورس في القرن 6 ق- م هو أول من استعمل أو ركب لفظ "فلسفة" في قوله: " من الناس من تستعبدهم الثروة وآخرون استعبدهم حب المجد، لكن قلة منهم تخلصت من هذا وذاك وكرست نفسها لدراسة الطبيعة لالشيء إلا حبا للمعرفة. إن هؤلاء هم الذين سموا أنفسهم فلاسفة"
يتضح من هذه القولة أن موضوع الفلسفة اشتمل في البداية على دراسة شاملة للطبيعة، لذلك لقبت الفلسفة بـــأم العلوم، بيد أن هذه العلوم استقلت عن الفلسفةالواحدة بعد الأخرى بدءا بالرياضيات والفلك مرورا الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.. بحيث أصبح لكل منها موضوعه ومنهجه الخاص. كما نستنتج بأن الفلسفة بحث عن المعرفة يحركه حب المعرفة لذاتها بعيدا عن كل إنشغال نفعي براغماتي. التعرف على الفلسفة من خلال الظروف التاريخية لنشأتها:
في مجالات علمية كثيرة، تتخد ظروف نشأة الشيء أو الظاهرة مدخلا لفهمه كما في الجغرافيا أو الجيولوحيا، وبالمثل سنعرض للظروف التاريخية لنشأة الفلسفة لنكون فكرة عن طبيعتها.
لم تخل الحضارات الشرقية القديمة من وجود تفكير ومفكرين إنشغلوا بالتأمل في الإنسان والأخلاق والمصير والمعرفة.... بيد أن شروط ظهور الفلسفة لم تكتمل وتجتمع إلا عند اليونان حوالي القرن السادس ق.م. ومن أهم هذه الشروط:
- توسعهم على حساب الفينيقيين، مما سهل احتكاكهم بالثقافات المجاورة فشجع عملية المثاقفة أي التفاعل مع ثقافات الشعوب المجاورة في جوانبها العلمية والدينية...؛
- هزيمتهم اللاحقة أمام الفرس وماأثارته من موجة عارمة من الشك طالت حتى الآلهة نفسها؛
ظهور بوادر النظام الديموقراطي بما يتيحه من حرية التفكير والنقد والجدل والنقاش العمومي، بحيث يمكن القول أن الفلسفة قد خرجت من قلب ساحة الأغورا؛
تطور علم الرياضيات التي يشاطر الفلسفة كثيرا من خصائصها كالطابع المنطقي البرهاني الإستدلالي والتجريدي.
التعرف على الفلسفة من خلال نماذج لبعض الممارسات الفلسفية التأسيسية:
يمكن أن نتقدم قليلا في تعريف الفلسفة بأن نلقي نظرة على بعض الممارسات الفلسفية ذات الدلالة التأسيسية لأنها تكشف الآليات التي إعتمد عليها التفكير الفلسفي في لحظة ميلاده، والتي يمكن لكل تفكير أن يعتمد * الفلاسفة الطبيعيون:
هم طائفة من الفلاسفة انشغلوا بمحاولة الجواب على السؤال التالي: " ماأصل الكون ؟" ذلك أنهم لما نظروا إلى تعدد الموجودات وإختلافها، حاولوا تجاوز هذا المعطى الظاهري بحثا عن أصل أو مبدأ جوهري واحد لجميع هذه الموجودات. صحيح أن أجوبتهم على السؤال إختلفت وقد تجاوز العلم المعاصر أغلبها: إذ يرجع طاليس هذا الأصل إلى الماء، بينما يرجعه أنكسمنس إلى الهواء و فيثاغورس إلى العدد... بيد أن المهم هو سؤالهم ذو الطابع الشمولي الجذري بحيث يتجاوز ظاهر الوجود المتسم بالتعدد إلى الوحدة الكامنة في جوهره.
وإذا كان العلم المعاصر ينحو نفس المنحى فيرجع جميع الكائنات إلى الذرة، فذلك يعني أن الحقيقة تكمن غالبا في ماوراء الظاهر، وأن الظاهر لايكون غالبا إلا مصدرا للوهم، لذلك قال باشلار : " لاعلم إلا بما هو خفي ".
* السوفسطائيون Sophistes :
تشتف هذه الكلمة في اليونانية من سوفوس وتعني المعلم. وقد كان هؤلاء فعلا معلمين لفنون الخطابة والإقناع والجدل مقابل أجر نظرا للحاجة الماسة إلى هذه الفنون كوسيلة للنجاح في النظام الديموقراطي. لم يعتن السوفسطائيون بموضوع الإقناع قدر إهتمامهم بكيفيته. فلا يهم عندهم مضمون الخطاب بل صورته. ومن أشهرهم بروتاغوراس و جورجياس القائل بأن " الإنسان مقياس كل شيء" إشارة إلى نسبية الحقائق وتعددها. يعود الفضل إلى السوفسطائيين في تحويل الإهتمام نحو الإنسان عوض الطبيعة وفي عنايتهم وتطويرهم لأساليب الإقناع والحجاج كشرط محدد لقيمة الخطاب، وهم بذلك يمهدون لسقرط. * سقراط:
( أنظر الكتاب المدرسي ص: 110 واللوحة ص: )
واحد من أهم الأعلام البارزة والمؤسسة في تاريخ الفلسفة، ولانكاد نعثر على خاصية للتفكير الفلسفي إلا وقد مارسها سقراط بشكل أو بآخر. يتمثل الإرث السقراطي في:
- المحاورة كشكل للممارسة الفلسفية: لم يترك سقراط عملا مكتوبا، وقد خلد تلميذه أفلاطون أفكاره في محاورات تحمل كل واحدة منها إسم محاور سقراط مثل هيبياس، فيدروس، ليزيس... ومن مميزات الشكل الحواري أن الحقيقة لاتغدو تلقينا بل نتيجة لبحث مشترك نعترف فيه للمحاور بدور في بناءها.
- التواضع المعرفي: بخلاف السوفسطائيين الذين نسبوا لأنفسهم المعرفة والحكمة، رفع سقراط على الدوام شعارا مضمونه: " كل ماأعرفه هو أني لاأعرف شيئا !!" مما يفيد وجود حس نقدي، وهو ذلك الموقف العقلي الذي يدفع صاحبه إلى الإحتراس والتردد في قبول المسلمات والمعارف الجاهزة قبل إخضاعها للفحص والتحليل.
-الفضيلة كغاية للممارسة الفلسفية: إذا كانت غاية الممارسة الفكرية عند السوفسطائيين هي التعليم أي التمكن من وسائل الإقناع بغض النظر عن مضمون الإقناع، فإن غاية الفلسفة عند سقراط هي " تدريب النفس على إكتساب الفضيلة" بحيث لاينفصل تعليم المعرفة عن الغاية التربوية الأخلاقية.
- الفلسفة بحث عن الماهيات الكلية: تلح محاورات سقراط على التساؤل بشكل متكرر عن ماهيات الأشياء وتعريف المفردات بحثا عما هو جوهري كلي خلف الجزئيات المتعددة على مستوى الظاهر. لذلك نجده مثلا يسأل هيبياس عن الجمال و يذكره بشكل مستمر بأن المطلوب تحديد ماهية الجمال لا القيام بجرد للأشياء الجميلة !!
- المنهج السقراطي: إضافة إلى أفكاره السالفة الذكر، تميز سقراط بمنهج خاص في البحث عن الحقيقة أثناء المحاورة، ويعتمد هذا المنهج على مرحلتين:
* التهكم: حيث يصطنع سقراط الجهل بداية، ليدفع محاوره إلى إلقاء