إن النظام في الحياة هو أساس كل شيء، فكما ينظم الإنسان منزله ويسعى دائما إلى أن يكون هذا النظام نظيفا ومرتّبا، فإنه بفضل هذا النظام، يمكن أن تصبح الحياة أسهل
وأن ننظم مواعيدنا، ليس فقط مواعيد العمل، وإنما مواعيد الصلاة النوم والأكل أيضا. إن ما أصبحنا نراه اليوم هو أن مواعيد العمل صارت لها الأولوية، مع العلم أن الإنسان منقسم إلى شقين: الشق الروحي، وغذاؤه الصلاة، والشق الجسدي، وغذاؤه الأكل. فكيف يعقل أن يصبح الإنسان عبدا للعمل، متناسيا ما يزوده بالطاقة لهذا العمل؟ نعم، العمل عبادة، لكنْ ليس على حساب صحتنا، فوجبة الإفطار ضرورية، لأنه بعد «الصيام» الذي يدوم الليل كله، لا بد من وجبة الصباح، نظرا إلى ما لها من تأثير على الطاقة الحركية والفكرية طيلة فترة الصباح. أما وجبة الغذاء فهي ضرورية لتزويد الجسم بالطاقة الضرورية.
ما يخيفنا، نحن كأخصائيين، هو ما أصبحنا نراه الآن من وجبات سريعة، إذا سلِم الإنسان من تسمماتها، فقد يدفع الثمن في الأمد البعيد، فنظام التوقيت المستمر جعل أغلبية من يعملون بهذا النظام يؤجلون وجبة الغذاء إلى نهاية العمل، إذ إن ما لا يعلمه البعض هو أن تأثير وجبة ما له نصيبه في التأثير النفسي، حيث إن العديد من الدراسات أكدت أن للوجبة الغذائية تأثيرا نفسيا لا يقل أهمية عن التزويد بالطاقة. هذه التصرفات الشائعة والروتينية هي سبب الفشل الذهني والبدني الذي يصيب الشخص في الساعات الأخيرة من العمل، إضافة إلى الإكثار من شرب القهوة وكذلك التدخين. حتى التغذية ليست وحدها كافية لإعطاء التوازن لجسم الإنسان، لأن الراحة البدنية والفكرية تلعب دورا مهما في عملية الهضم، ولو لنصف ساعة على الأقل. ربما أصبحت هذه الأشياء «عادية» في مجتمعنا، لكن ما لا نعلنه هو أن نتائج هذه السلوكات نلاحظها على الأمد البعيد من مشاكل في الأمعاء والمعدة وسرطانات أمراض مزمنة، فلنحاول ألا نجعل جسمنا آلة، فالغذاء الطبيعي البعيد عن عالم الوجبات السريعة يمكن أن يجنبنا الكثير ويجعلنا نعود إلى ما هو طبيعي ومتوازن.
التمر مثلا فوائده لا تحصى، فالتمر هو تمر النخيل وسمي «بسرا» حين يكون غصنا طريا، ويدعى «بلحا» ما دام أخضر ورطبا حين يلين وينضج. ويطلق اسم التمر على التمر اليابس. وقد دلت الحفريات التي أنجزت في مقابر الفراعنة على مدى تقديسهم للتمر، حيث اكتُشفت صورة منقوشة للتمر على جدران معابد الفراعنة. وتدل كثير من الكتابات والمذكرات على ما كان للتمر من قيمة غذائية لدى القساوسة والرهبان. ولعل ذلك راجع إلى أنه كان طعام السيدة مريم (ع) أيام حملها بالسيد المسيح عليه السلام. وقد كان التمر عند العرب بالغ الأهمية، حيث كان موجودا في الجزيرة العربية قبل فجر التاريخ واتخذه العرب مادة أساسية للغذاء في حياتهم وحروبهم، فالتمر يحتوي على الطاقة (278 سعرة حرارية في 100 غرام من التمر) إضافة إلى الماء والبروتينات والسكريات والألياف والدهون والمعادن (صوديوم، مغنزيوم، فوسفور، بوتاسيوم، كالسيوم، حديد...) والفيتامينات (تيامين، ريبوفلافين، نياسين، حمض البانتوتنيك...).
من خلال هذه التركيبة، يتبين أن التمر يحتوي على عناصر مهمة تمد الجسم بالطاقة اللازمة لأداء وظائف مختلف الأنسجة، وخصوصا المخ، الذي يستمد الطاقة من السكريات، والتي تتواجد في التمر في صورة سهلة الهضم والامتصاص، وهذا هو المغزى من كون الرسول (ص) كان يفطر على رطبات (رُطَب حين يلين التمر وينضج) قبل أن يصلي، حيث إن الصوم ليلا يخلص المعدة من الغذاء والكبد من مدخراته من «الغليكوجين»، وبالتالي يحدث نقص نسبة السكر في الدم. وبمجرد تناول التمر، تعود نسبة السكر إلى طبيعتها (باستثناء مرضى السكري يجب أن يحذروا من التمر) إذ إن المعدة تقوم بهضم المواد السكرية المتواجدة في التمر خلال نصف ساعة، وبذلك يجوب الوقود السكري بواسطة الدم أنحاء الجسم ويبعث في خلاياه النشاط والحيوية. كما يعتبر التمر «منجما» كاملا من المعادن، ومن أهمها الحديد، الذي يعتبر عنصرا مهما في تكون «الهيموغلوبين»، الضرورية لتشكل الكريات الحمراء ونقل الأوكسجين إلى مختلف مكونات الجسم، كما تكون «الميوغلوبين» العضلية. كما يحتوي التمر على الكالسيوم، وهو العنصر الأساسي في تركيب العظام والأسنان، كما يتدخل في وظيفة الأعصاب والعضلات وفي تختر الدم. يحتوي التمر أيضا على «الفوسفور» الذي يكون مع الكالسيوم عنصرا مهما في تثبيت المعادن في العظام. ومن مكونات التمر أيضا المغنزيوم، الذي يكمن دوره في تهدئة الجهاز العصبي ومنع توتره ويؤثر بشكل اِيجابي أيضا على المفاصل والأربطة. أما الصوديوم، الذي هو من مكونات التمر، فله دور فائق الأهمية في الحفاظ على توازن مختلف السوائل في الجسم. أما البوتاسيوم فهو يلعب دورا مهما في استعمال البروتينات والسكريات والإهاجة العصب
-عضلية، وفي اشتغال القلب. ومن المكونات الأخرى للتمر نجد الألياف السيليلوزية، التي تساعد الأمعاء على القيام بحركاتها الاستدارة والدودية، مما يجعل التمر ملينا طبيعيا ممتازا يستطيع مَن اعتاد على تناوله أن ينجو من حالات القبط أو الإمساك المزمنة.
و لم يقتصر احتواء التمر على السكريات، على المعادن والفيتامينات فقط، بل اكتشف العلماء مادة تشبه هرمون الأوسيتوسين، الذي يخزن في الفص الخلفي للغدة النخامية، وهو يتألف من تسعة أحماض أمينية. وبهذه التركيبة، تكون له خاصية فريدة عند الرجل والمرأة، على حد سواء. في ما يخص المرأة، فقد وجد أنه أثناء الحمل تقوم الأستروجينات بزيادة ضخ هرمون الأوسيتوسين، وبذلك تزيد قدرة الغدة النخامية على تخزين هذا الهرمون. كما أنها تزيد من مستقبلات هرمون الأوسيتوسين. وما إن يبدأ المخاض، حتى يفرز الأوسيتوسين من مخازنه في الغدة النخامية بكميات كبيرة ويتحد مع مستقبلاته الموجودة في الرحم وفي الخلايا العضلية المحيطة بقنوات الحليب في الثدي. وما إن يتحد هرمون الأوسيتوسين مع مستقبلاته، حتى تبدأ التقلصات العضلية المنتظمة بشكل تدريجي، والتي تؤدي إلى توسع عنق الرحم، ومن تم حدوث عملية الولادة. ولا يقتصر دور هرمون الأوسيتوسين على ما سبق فقط بل إنه بعد زوال المشيمة من الرحم، تترك هذه الأخيرة سطحا مليئا بالدم في جداره، لأنه يحتوي على أوعية دموية دقيقة تبقى مفتوحة ونازفة بعد الولادة. وعندما يتابع هرمون الأوسيتوسين تأثيره بعد الولادة، يزداد انقباض الألياف العضلية للرحم وتقلصها، الشيء الذي يؤدي إلى انسداد عيون الأوعية الدموية النازفة تدريجيا ويتعدى هرمون الأوسيتوسين الرحم ليؤثر أيضا على الألياف العضلية الظاهرية المحيطة بقنوات الحليب في الثدي، الأمر الذي يؤدي إلى إدرار الحليب عند تقلص هذه القنوات. هذه الخصائص مهمة جدا لكل امرأة حامل، للنفساء وللمرضعة، لهذا جعل الله سبحانه وتعالى غذاء السيدة مريم العذراء التمر. وقد تم اكتشاف أن هرمون الأوسيتوسين له تأثير عظيم على رقة القلب والعطف والإحساس المرهف ولين الطبع. كما أننا نجد أن التمر يقلل من نسبة هرمون الأدرينالين، المسؤول عن الاِنفعالات والتوتر والعصبية. ويؤدي ارتفاع هذا الهرمون إلى زيادة نسبة السكر في الدم، ومن ثمة ارتفاع امتصاص الماء من داخل الخلية، وبالتالي إلى انكماش هذه الأخيرة، وهذا ما يعرف بالتوتر، هذا ما بينه الرسول (ص) مند قرون عندما قال: «أطعموا نساءكم التمر فإن من كان طعامها التمر خرج ولدها حليما».. كما يحتوي التمر أيضا على مادة تشبه في تركيبتها ووظيفتها هرمون الأستروجين، الذي له وظائف متنوعة، إذ يؤثر في وظائف العظام، الثدي، الجلد، في توازن الأيونات والأملاح وفي توزيع الدهون في الجسم. كما أن له تأثيرا على تطور الدماغ والجهاز العصبي المركزي أثناء الحياة الجنينية وفي السنة الأولى لكل من الذكر والأنثى. ويرجع هذا الاختلاف في الدماغ بين الجنسين إلى اختلاف نسبة هرمون الأستروجين بين جسم الذكر والأنثى واختلاف نسبة التركيز. ويؤدي هذا إلى اختلاف التركيبة ومنه إلى اختلاف سلوك الإناث عن سلوك الذكور. وقد أجريت تجارب علمية لتأكد دور التمر العجوة (وهي التمر المنقوع في اللبن) والعجوة ذكرها رسول الله (ص) في قوله «من تصبح بسبع تمرات عجوة لا يصيبه في هذا اليوم سم ولا سحر».. دور يكمن في أن التمر -العجوة له دور في إبطال مفعول السموم، حيث إن الجسم يتخلص من جميع المواد الضارة ونتائج تعفن المواد الغذائية في الأمعاء عن طريق ربطها في الكبد ببعض المركبات، ومن أهمها «الغلوكورونيك»، الذي يفرزه الكبد نتيجة أكسدة سكر العنب (الكليكوز) ولذا كان للتمر دور مهم في إبطال السموم، باعتباره من أغنى الفواكه بهذا السكر، فأجدادنا لم يجعلوا التمر والحليب في مناسبات الزفاف غذاء للعروسين عبثا، بل لما لذلك من دلالات، أولها ثقافية وتاريخية وأهمها غذائية، لأن التمر والحليب غذاء يعطي السكينة والهدوء للأعصاب، بالإضافة إلى أنه غذاء يلبي حاجيات مهمة من حاجيات الجسم اليومية تقدر بـ600 إلى 800 سعرة حرارية، لذا لا بأس أن نجرب ونعطي أولادنا مفاتيح التغذية الصحية، من أجل الحفاظ على أمانة ليست كالأمانات، هي أمانة الحياة، فالحياة أمانة، فلنحافظ عليها، إذ لكل داء دواء، علِمه من علمه وجهله من جهله. المرض وارد والشفاء مطلوب والوقاية خير من العلاج..