دير البحر الآتي من الشرق القريب البعيد . لو كان باستطاعته الصعود لأعلى جبل في هذه القرية الريفية كي يرى خيال مدينته الغائبة الحاضرة . كم تمنى أن يرى ظلال مآذنها في سواد الليل المظلم . كم تمنى أن يسمع زقزقة عصافيرها المتراقصة بين افيائها المتشابكة، مكونة سماء خضراء تتسرب من خلال أشعة حمراء تتماوج في بحر أزرق صاف يغطي سماءها .
هو دائم السرحان والخيال ، يتحسس جيبه ويتفقد كنزه الذي طالما حافظ عليه، ومنع الآخرين من مجرد النظر إليه ، وكلما سأله أحدهم: " ماذا تخفي في جيبك يا عم كرم؟"، رد عليه بكل حذر بالغ:"لاشيء، مجرد شيء عزيز علي، هو كنزي بالرغم من انه عند غيري قد لا يساوي شيئا ، ولكنه بالنسبة لي هو حياتي". وتمر الأيام والسنون ، ومازال العم كرم يحلم بمدينته الأسيرة وكلما تذكر تحسس جيبه المنتفخ؛ حيث يحس بدفء يتسرب إلى جسده فيدب الحياة في هذا الجسد الهزيل . أما صابر؛ وهو الابن الأكبر للعم كرم؛ فهو اعلم الناس بحال أبيه ، فبالرغم من أن عمره آنذاك كان لا يتجاوز الخمس سنوات إلا انه يتذكر مدينته الجميلة . يذكر ساعات المساء الجميلة حيث الشفق الأحمر يتسلل خلف أمواج البحر الصافية حياء من صفاء السماء وهدوء الماء وروعة الأجواء ، حيث كان يلعب هو وأصدقاؤه فتتصافح فيه أجساد الأطفال مع أمواج البحر الناعمة برقة كهدهدة الأم الحنون لوليدها:" آه، ما اجمل مدينتي البعيدة…"، قالها صابر بعد تنهيدة طويلة وهو مازال ينظر إلى والده العجوز الذي كعادته ميمنا وجهه جهة المحبوبة البعيدة . تذكر صابر ما سمعه اليوم من أن هناك رحلة إلى الشمال المأسور. هو حينها لم يعر الموضوع اهتماما ، ولكن الآن وبعد أن رأى منظر والده ، وشدة لهفته وشوقه لرؤية البيت القديم ، قرر أن يسجل لهذه الرحلة ، حتى لو كانت هذه الرحلة ستستنزف جزءا مما خبأه ليشتري كسوة الشتاء القادم.. تقدم من والده ثم وضع كفيه على كتفه الضعيف ثم قال له: "هل ما تزال تذكر حيفا يا والدي؟"… سرى رعشة سريعة في الجسد الهزيل ما لبثت أن انتقلت إلى جسد الأب . شعر الأب وكان شريط طفولته ، شبابه ثم شيخوخته قد عرض أمامه بسرعة شديدة وهو مازال يحاول أن يوقف مسلسل الأحداث ليقف عند تلك اللحظة التي حمل فيها فرشته المهترئة ، وابنه صابر على كتفه ، وهو يصرخ بزوجته وأبنائه الصغار: "بسرعة .. بسرعة قبل أن يأتوا إلى هنا ويقتلونا .. بسرعة ". ثم استدار بسرعة إلى الخلف أسرع إلى الباب ، أقفله بمفتاحه الحبيب ثم انطلق مسرعا وهو يلتفت إلى الوراء ويقول في نفسه: "ترى هل أستطيع أن افتح هذا المنزل؛ مرة أخرى.!!" ترقرقت دمعة من عينيه الواهنتين فأسرع بمسحها قبل أن يشعر بها ولده ، ولكنه لم يعلق على سؤال ولده ثم عاود النظر إلى حيث الشرق الحبيب . احترم صابر سكون والده ، ولم ينطق بكلمة أخرى واكتفى بان قبل يديه ثم دخل المنزل وقد زاد اصراره على تحقيق حلم والده برؤية البيت الأول والمنزل الحبيب . وفي صباح اليوم التالي.. أيقظ والده ليصلي صلاة الصبح جماعة . ثم سار معه إلى حيث التجمع ، كانت البسمة مشرقة على وجه العجوز الذي نسي معنى الفرح منذ خمسين عاما ركب الباص بحيوية غير معهودة ، ولم ينس أن يتفقد جيبه ويتحسس كنزه الحبيب كعادته… سار الباص بين المدن الجميلة التي ارتمست على حدودها أسوار صماء مشكّلة بثكنات مصطنعة تشوه جمال الطبيعة الصافية الرائعة . ثم فجأة أحس العم كرم بشعور جعل قلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه: "لقد اقتربت يا كرم ، لقد تحقق الحلم يا كرم… سترى البيت يا كرم . وأخيرا ستكتحل عينيك بنور سمائها ، وبهاء أرضها وعبير أشجارها ، ستتنسم أريج ورودها وتستمع لزقزقة عصافيرها ، ستعود بك السنون إلى خمسين عاما من الشتات والحسرة والهوان . سترى البيت يا كرم؛ ياه!! بعد كل هذه السنين الطويلة أراك يا حيفا . أتنسم هواءك ، وتصافح نسماتك جبهتي … الحمد لله".
توقف الباص فجأة أمام بيت قديم ، وحديقته الغناء كما كانت قبل خمسين عاما ، صابر يقف بجانب سائق الباص والدموع مترقرقة في عينيه ، وفقط ينظر إلى والده .. أما كرم أو العم كرم ، فشخصت عيناه بذلك البيت وكم تمنى أن يقفز من النافذة كي يقبّل تراب أرضه ، ويتلفح بجدرانه . نظر إلى صابر، فهز صابر رأسه ، ثم فتح باب الباص ، نهض العجوز من مقعده ، وركض كما لم يفعل منذ عشرات السنين حتى وصل إلى الحديقة .
بكى العم كرم ، نعم؛ لقد بكى وتخضبت لحيته البيضاء المشعثة بدموع الجوى والسعادة .
اخذ يركض ويقفز هنا وهناك ويصرخ بكلمات غير متزنة .. "حيفا .. لقد عدت يا حيفا… لقد عدت .. ثم فجأة وضع يده في جيبه وامسك بكنزه المخبأ منذ خمسين عاما ، ثم ركض مسرعا نحو باب بيته الحبيب.. رفع كنزه في الهواء فإذا به مفتاح منزله القديم.. وما أن أدار المفتاح في الباب حتى فجأة ثقل وزن العجوز.. وسقط على الأرض مغشيا عليه، ولم يقو على النهوض . أسرع صابر إلى والده العزيز ، رفعه، واحتضنه.." أبي .. ماذا أصابك يا والدي ؟ أبي.." أفاق الأب من غشيته ثم نظر إلى صابر مرة والى الباب أخرى.. ثم نظر إلى حيفا نظرته الأخيرة. ثم .. سقط. نعم سقط العاشق بعد لقاء معشوقته الغالية .. سقط على أرضها وترابها بعد أن أعاد كنزه إلى مكانه الأصلي .. لقد انتظر كل هذه السنين ليموت على أرضها ، ولتكون آخر صورة يراها هي حيفا .. حمل صابر والده ، وقبل أن يغادر ، اخرج المفتاح من الباب ووضعه في جيبه… ثم غادر حيفا .. ليعود يوما إليها فاتحا… … لا سائحا…