التشدد في الدين على النفس والتعسير على الآخرين
من مظاهر الغلو في هذا العصر الخروج عن منهج الاعتدال في الدين, الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم, وقد حذر النبي النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يُسر, ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه»(1), والتشدد في الدين كثيرًا ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين, وهما من أبرز سمات الخوارج, أعني التشدد في الدين وقلة الفقه, وأغلب الذين ينزعون إلى خصال الخوارج اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين(2), ومن مظاهر الغلو التعسير وترك التيسير, فأصحاب الغلو يطالبون الناس بما لا يُطيقون, ويلزمونهم بما لا يلزمهم به الشرع السهل, ولا يراعون قدراتهم وتفاوتها, وطاقاتهم واستطاعتهم وتباينها, وأفهامهم واختلافها, فيخاطبونهم بما لا يفهمون, ويطالبونهم بما لا يستطيعون. ومن أسباب التعسير الورع الفاسد, والجهل بمراتب الأحكام, والجهل بمراتب الناس, وأما مجالاته وصوره وأشكاله؛ إيجاب النظر والاستدلال على الجميع, وتحديث الناس بما لا يعرفون, وترك الرخص والإلزام بما لم يلزم به الشرع(3).
التعالي والغرور وما يؤدي إليه من تصدر الأحداث
من السمات البارزة في ظاهرة الغلو في الوقت المعاصر: التعالي والغرور, وادعاء العلم في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي, والأحكام وقواعد الدين, أو قد يكون عنده علم قليل, بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد, ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين, فيستقل بغروره علم العلماء, ويقعد عن مواصلة طلب العلم فيهلك بغروره ويُهلك, وهكذا كان الخوارج الأولون يدعون العلم والاجتهاد, ويتطاولون على العلماء وهم من أجهل الناس(4). وأدى التعالم والغرور إلى تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام للدعوة بلا علم ولا فقه, فاتخذ بعض الناس منهم رؤوسًا جُهالاً, فأفتوا بغير علم وحكموا في الأمور بلا فقه, وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي, ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي, بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ, ولا يعرف لهم قدرهم, وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه, أو بخلاف موقفه أخذ يلمزهم إما بالقصور أو التقصير, أو الجبن والمداهنة, أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك, ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد العظيم, وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم ومن اعتبارهم, وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم(5).
الاستبداد بالرأي وتجهيل الآخرين
من أبرز معالم الغلو حديثًا التعصب للرأي, وعدم الاعتراف برأي الآخرين, وإنكار ما عندهم من الحق ما دام خالفه في الرأي, ومن الأسباب التي تولد التعصب للرأي والانحياز له, قلة العلم, مصادفة الرأي لذهن خال, الإعجاب بالرأي, اتباع الهوى.
إن آفة الإعجاب بالرأي والتعصب له هوت بأصحابها إلى دركات خطيرة, في أزمنة قبلنا, فما الذي هوى بذي الخويصرة الجهول, يقول ابن الجوزي: وآفته أنه رضي برأي نفسه, ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله (6), والذي هوى بأصحاب ذي الخويصرة هو إعجابهم برأيهم, وظن السوء في غيرهم, وكانت الخوارج تتعبد, إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه وهذا مرض صعب(7) أوقعهم في المهالك. إن هؤلاء المساكين وقعوا أسرى لألفاظ لم يحسنوا فهمها, ولم يستمعوا لمن يجليها لهم, ويفهمهم إياها, لأن الصواب هو رأيهم وما عداه خطأ, يقول محمد أبو زهرة: أولئك استولت عليهم ألفاظ الإيمان, ولا حكم إلا لله, والتبرؤ من الظالمين, وباسمها أباحوا دماء المسلمين وخضبوا البلاد الإسلامية بجميع الدماء وشنوا الغارة في كل مكان(8). إن هذا التعصب المقيت قد صدهم عن الاستجابة للحق بعد وضوحه, فقد ناظرهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه وأزالا أعذارهم, ودحضا شبهاتهم, وأقاما عليهم الحجج الدامغة, وأفحماهم بالبراهين الساطعة, فلم يستجب إلا بعضهم واندفع الكثير لاستباحة دماء المسلمين. إن التعصب للرأي وتجهيل الآخرين يتنافى مع مبادئ هامة في الإسلام كالشورى والتناصح.
الطعن في العلماء العاملين
يشهد عصرنا حملة غريبة وظاهرة عجيبة ألا وهي الاعتداء على هيبة العلماء العاملين, وطعنهم بخناجر الزيغ والضلال, ولقد شهدت الصحف والمجلات, والكتب والمقالات, وقاعات الدروس والحلقات نماذج كثيرة من تلك الحملات, فجلب على أمة الإسلام أبلغ الأضرار, فشتت الشمل المشتت, وفرق الجمع المفرق, وعمق الشق الغائر, ولا شك أن للطعن في العلماء أسبابًا منها: التعلم بدون مُعلم, الفهم الخاطئ لبعض عبارات العلماء, واتباع الهوى, والحسد, وقد لجأ بعض الشباب إلى أسلوب سيء ألا وهو تتبع عورات العلماء وزلاتهم, وتصيد أقوالهم, وشواذ آرائهم, وتحريف كلمهم عن مقصودهم, فعلوا ذلك ليبرروا حملتهم الشعواء في الطعن على العلماء قديمًا وحديثًا ممن يخالف آراءهم, ولا يقر مناهجهم الحائدة عن الاعتدال, ولقد كان فعلهم هذا وبالاً على الإسلام, وقرة عين لأعداء الإسلام من بني صهيون وعابدي الأوثان, وإن هذا المسلك المشين الذي يدل على جهل صاحبه أو مرضه وحقده, قد حذر منه العلماء لخطورته على المسلمين, ولأنه تنفيذ لمخطط أعداء الدين, وتحقيق لأغراضهم بلا تعب ولا نصب(9), يقول ابن تيمية رحمه الله وهو ينهى عن رواية الأقوال الضعيفة عن الأئمة والعلماء: ومثل هذه المسألة الضعيفة, ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين لا على وجه القدح فيه, ولا على وجه المتابعة له فيها, فإن ذلك ضرب من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة, وبمثل ذلك صار وزير التتار يلقى الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السُّنة والجماعة, ويوقعهم في مذهب الرافضة وأهل الإلحاد(10), إن الذين يطعنون في علماء الأمة العاملين يخدمون المخططات اليهودية والنصرانية والطاغوتية والاستخباراتية سواءً أشعروا بذلك أم لا, والذين لا يزالون يطعنون في علماء الأمة بفعلهم هذا يكونون قد ابتعدوا عن منهج أهل السنة الجماعة الذي يقول: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر, وأهل الفقه والنظر, لا يذكرون إلا بالجميل, ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل(11), وليعلم الذين يطعنون في علماء الأمة العاملين أن لحوم العلماء مسمومة, وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة, وما يدري هذا المتعالم أن الاعتبار في الحكم على الأشخاص بكثرة الفضائل! قال ابن القيم رحمه الله: ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالحة وآثار حسنة, وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور, بل مأجور لاجتهاده, فلا يجوز أن يُتبع فيها, ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين(12). فمن يبقى لأمة الإسلام إذا طُعن في علمائهم؟, سيبقى شباب أحداث, لا يحسنون التلاوة, ولا تستقيم لهم لغة, وليس لهم باع طويلة ولا قصيرة في كثير من علوم الشرع؟!.
إن أسلوب الطعن في العلماء قرة عين لأعداء الإسلام؛ لأنه ينشئ جيلاً بلا قادة, وهل رأيتم جيلاً بلا قادة قد أفلح؟
إن أسوأ ما في الأمم السابقة علماؤهم وأحبارهم, فقد كثر فيهم الضالون المضلون, قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ" [التوبة:34].
وأفضل ما في الإسلام علماؤه الربانيون العاملون, قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين, فإن علماءها خيارها(13), ووضح ذلك ابن تيمية فقال: وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون, وإنما يضلهم علماؤهم, فعلماؤهم شرارهم, والمسلمون على هدى وإنما يتبين الهدى بعلمائهم, فعلماؤهم خيارهم(14).
سوء الظن
لقد كثر هذا المرض واستشرى ضرره في عصرنا, وكانت هذه الآفة أداة فتك وتدمير, ووسيلة هدم وتخريب, وقد ترتب عليها نتائج خطيرة, ومفاسد عظيمة, ولهذه الآفة أسباب ودوافع منها: الجهل, فالجهل بتفهم حقيقة ما يرى وما يسمع وما يقرأ ومرمى ذلك, وعدم إدراك حكم الشرع الدقيق في هذه المواقف خصوصًا إذا كانت المواقف غريبة, تحتاج إلى فقه دقيق, ونظر بعيد, يجعل صاحبه يبادر إلى سوء الظن, والاتهام بالعيب, والانتقاص من القدر, ومنها الهوى؛ وهو آفة الآفات, فيكفي أن يرى المرء أو يقرأ أو يسمع ما لا يعجبه, ولا يرضاه, ولا يوافق عليه ويبتغيه.. يكفي ذلك لأن يطلق للظن السيء الحبال, ويرخي له العنان فيرتع ويصول ويجول, ولا يزن الأمور بميزان الشرع الدقيق, ولا يحاول أن يلتمس المعاذير, ولا يراجع نفسه فضلاً عن أن يتهم فهمه, فالهوى يصده عن ذلك, ومنها العجب والغرور, فإحسان المرء ظنه بنفسه, وغروره بفهمه, إن كان ذا فهم, وإعجابه برأيه يدفعه لأن يزكي نفسه ويحتقر غيره فهو الصواب والكل خطأ, وهو الحق والكل باطل, وهو الهدى والجميع ضلال, وقد رأينا أُناسًا بلغ بهم سوء الظن مبلغًا غريبًا عجيبًا, حتى أخرجوا جميع الناس عداهم, أحياء وأمواتًا, فرموهم بالزيغ والضلال, وفساد الاعتقاد, فالجميع في عقيدته دخن ودخل, وهم وحدهم المخلصون, الجميع هالكون وهم الناجون. إن الظن السيء آفة, ولكل آفة آثارها الخطيرة, فمن آثارها السيئة -والسيء لا يلد إلا سيئًا-:
* أنه يدفع صاحبه لتتبع العورات, والبحث عن الزلات, والتنقيب عن السقطات, وهو بذلك يعرض نفسه لغضب الله وعقابه, لأن ذلك من صفات مرضى القلوب الذين توعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضيحة فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإن من تتبع عوراتهم يتتبع الله عورته, ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته»(15).
* كما يدفع صاحبه إلى الغيبة, ونهش أعراض الآخرين, والتشفي فيهم.
* وأخيرًا فالظن السيء يزرع الشقاق بين المسلمين, ويقطع حبال الأخوة, ويمزق وشائج المحبة, ويزرع العداء والبغضاء والشحناء.
ولما كانت هذه الآفة ذات خطورة عظيمة كما تبين, فقد كان موقف الإسلام حاسمًا, وقد دعا وأمر باجتناب أكثر الظن, لأن الوقائع والأحداث أثبتت أن الجري وراءه واتباعه عاقبته وخيمة, وأضراره عظيمة(16), قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" [الحجرات:12], قال ابن كثير: يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن, وهو: التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله, لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا, فليجتنب كثير منه احتياطًا(17), ومما يدفع سوء الظن التماس العذر لأخيك, قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا, وأنت تجد لها في الخير محملاً»(18).
الشدة والعنف مع الآخرين
من مظاهر الغلو حديثًا الشدة والعنف في التعامل مع الآخرين, واستخدامهما في غير محلهما, وكأن الأصل في التعامل مع الغير هو العنف والغلظة لا الرفق والرحمة, وهذه الشدة أصبحت هي الطابع الغالب على سلوك بعض الشباب, وقد تجاوز العنف حدود القول إلى العمل, فسفكت دماء بريئة بسببه ودمرت منشآت, ولقد تسبب هذا العنف في أضرار فادحة على أصحابه وعلى الأمة, وقد كانت هناك جملة أسباب رئيسية وراء استخدام بعض الشباب للعنف والشدة, والقسوة والغلظة, نستطيع أن نجملها فيما يلي:
- المحن: فكثير من هؤلاء الشباب تعرضوا لمحن شتى, أثرت في نفوسهم, وكان لذلك رد فعل شديد, فقابلوا العنف بالعنف, وغلب ذلك على طباعهم.
- الجهل بفقه الاحتساب: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات التي كلف الله بها هذه الأمة, وينبغي للقائم بها أن يكون فقيهًا فيها ليتمكن من تحقيق المصلحة واجتناب المفسدة بأيسر طريق, فهناك أمور ينبغي فقهها والعلم بها لمن يؤدي هذا الواجب منها: أن هذا الواجب قد يُؤدى تارة بالقلب, وتارة باللسان, وتارة باليد, والقلب واجب في كل حال, وبعض الناس قد يقع هنا في خطأ, فمنهم من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقًا, من غير فقه وحلم وصبر, ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح, وما يقدر عليه وما لا يقدر, فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ولرسوله, وهو معتدٍ في حدوده(19), فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما, ولابد من العلم بحال المأمور والمنهي, ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم, وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود, ولابد في ذلك من الرفق ولابد أيضًا أن يكون حليمًا صبورًا على الأذى, فإنه لابد أن يحصل له أذى, فإن لم يحلم ويصبر كان يفسد أكثر مما يصلح, فلابد من هذه الثلاثة: العلم والرفق, والصبر, والعلم قبل الأمر والنهي, والرفق معه, والصبر بعده, وإذا كان كل من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال. وقد ذكر القاضي أبو يعلى: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به, فقيهًا فيما ينهى عنه(20), تلك بعض أمور من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد أدى الجهل بها وعدم مراعاتها إلى سلوك سبيل الشدة والعنف في الدعوة.
* ولقد استخدم بعض الشباب أسلوب الغلظة والقسوة في إرشاد الناس ومحاورتهم لهم, ودعوتهم لإقلاعهم عما يخالف الشرع, وظنوا أن طريق الشدة هي المجدية والرادعة, وغاب عنهم أن أسلوب الرفق هو الأصل ولا يترك إلا بعد أن تستنفد وسائله, لأنه هو المجدي النافع, المؤثر في النفس, أما الشدة فإنها تنفر في غالب الأحيان, وتحمل المخالف على الإصرار, ومن العجب أن هؤلاء لم يفرقوا بين المخالف عن علم, والجاهل الذي لا يدري, ولا بين الداعية للبدعة والضحية المضلل المخدوع, ولا بين المنكر المختلف فيه والمتفق عليه, ومن الأسباب الغليظة التي يسلكها بعض هؤلاء: الخشونة في معاملة الوالدين, فلا يقيم لهما حرمة, ولا يعاونهما ولا يخدمهما, لقد نسي هؤلاء أن الوالدين لهما خصوصيات عن سائر الناس لاسيما في دعوتهما وإرشادهما, ولا يعني ذلك التنازل عن الالتزام والتمسك بأمر من أمو الدين أو ارتكاب معصية إرضاء لهواهما.. كلا... كلا إنما نريد الأدب في المعاملة, واللين في القول وحسن العشرة, والصبر عليهما والشفقة والرحمة بهما, قال تعالى: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [لقمان: 15،14].
ولقد رأينا بعض الشباب يتخاذل عن معاونة الناس الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا, فهؤلاء في نظرهم لا يستحقون أي خدمة, ولا كلمة طيبة, ولا مساعدة نافعة, فهؤلاء الشباب لم يتضح عندهم مفهوم الولاء والبراء وحدود كل منهما, فيطغى عندهم البراء على الولاء, ونسوا أن الخدمات الاجتماعية وسيلة ناجحة من وسائل الدعوة, لأنها عملية, فهي أبلغ تأثيرًا في الناس من القول, نسوا أن خشونتهم في المعاملة وتخليهم عن المساعدة يعمق الهوة بينهم, ويذهب بهؤلاء الناس إلى صفوف المنحرفين أعداء الدين.
ومن مظاهر العنف البالغة ما يفعله بعض هؤلاء من مجاوزة الغلظة بالقول إلى القتل وسفك الدم, دم العلماء, أو الجنود الأبرياء, أو المواطنين العزل, وأخيرًا فلا تعجب إذا علمت بعد ذلك أن أصحاب العنف هؤلاء, كثيرًا ما انقلب بعضهم على بعض, وتطاولت الألسنة وأحيانًا الأيدي, وذلك ليس بغريب إذا رجع الإنسان قليلاً لدراسة أحوال الفرق التي تركت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح, فقد تناحرت تلك الفرق فيما بينها, وضلل بعضها بعضًا وكفر بعضها بعضًا.
وهكذا مصير من ترك المنهج الذي جاء به خاتم الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه, إن الإسلام موقفه صريح من العنف والشدة في الدعوة ومعاملة الناس, قال تعالى آمرًا موسى وأخاه هارون: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44،43], تلك هي توجيهات ربنا عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام عند دعوة فرعون الطاغية, القول اللين في بيان الحق لأنه أجدى وأقرب لقبول الذكرى وإحداث الخشية, وقال سبحانه: "وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 35،34].
إن الداعية قد يلقى في طريقه ما يغضبه ويضايقه, وهو لاقيه لا محالة, فلابد أن يوطن نفسه على الصبر, ويحصنها بكظم الغيظ, والعفو عن الناس "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" [لقمان:17].
وينبغي للداعية أن يتجنب أسلوب الإثارة والاستفزاز, فيبتعد عن السباب والشتم "وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام:108].
ولقد كثرت النصوص النبوية التي تؤكد وتركز على الالتزام بقاعدة الرفق, والبعد عن الشدة والعنف, قال صلى الله عليه وسلم «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه»(21).
والرفق: هوالأصل في الدعوة, ليس معنى ذلك إلغاء الشدة بالكلية, لا, فالشدة لها مواضعها بعد استنفاد وسائل الرفق والصبر, والموفق من وفقه الله لإنزال كل في منزلته, وعصمه من هواه(22).