قبل مجيء العلم و التقنية الحديثة كنا نستطيع تمثل الفلسفة كمعرفة, معرفة المعنى العميق للكون و للإنسان, و كسلطة, سلطة السيطرة على انفعالاتنا و بؤسنا لتحقيق السعادة. و لكن على الفلسفة في هذا المعنى أن تعترف بفشلها, فهي ليست معرفة حقيقية لأن الأنساق تعقب الأخرى و تتخاصم إلى ما لانهاية دون أن يقنع الواحد منها الآخر. و هي ليست سلطة حقيقية لأن الحكمة لا تقدم السعادة, فأن نزدري مثل الرواقيين البؤس و المرض و محن الحياة, فإن ذلك لا يمنعنا من الإحساس بالألم, و الخضوع الرواقي الذي يجعل الضرورة فضيلة هو اعتراف بالعجز, فالرواقية هي تجلّي أخلاقي للعبودية كما يقول نيتشه.
في مقابل ذلك يبدو أن العلم و التقنية يعطياننا اليوم معرفة حقيقية و سلطة واقعية, و يبدو أن العلم قد أطرد الفلسفة لا فقط من دراسة العالم الفيزيائي بل و أيضا من دراسة الإنسان، فبعد الفيزياء في القرن السابع عشر مع غاليلي و الكيمياءفي القرن الثامن عشر مع لافوازيي و البيولوجيا في القرن التاسع عشر مع كلود برنار ها هي العلوم الإنسانية بدورها تصبح وضعية. فعلم النفس و علم الإجتماع يعتمدان المنهج التجريبي و القياس في دراسة السلوك الإنساني. و يبدو أن التقنية تجعل تهافتا الحكمة الفلسفية، ففي الصراع ضد البؤس ( استغلال عقلاني للموارد الإقتصادية ) وفي الصراع ضد المرض ( الطب والجراحة ) تقدم لنا التقنية سلطة حقيقية.
هل لنا أن نتصور في ظل هذا الواقع أن الفلسفة لا تصلح لشيء؟
ذلك ما يذهب إليه العلمانيون و الوضعيون بأقل درجة بل و حتى الحس المشترك الذي يقيم الفلسفة انطلاقا من معيار النجاعة. غير أن هيدقر كان قد بين خطأ مثل هذا التقييم, فلا يجب أن نتصور أن الفلسفة معرفة كالمعارف الأخرى، فهي قبل كل شيء مجهود فكري، هي حركة نقدية لا تقدم أي معرفة جديدة و لكنها تسائل المعارف الأخرى و تراجعها. و هي كمشروع نقدي تبقى دائما أما للعلوم، ذلك ما أكده هوسرل، فالفلسفة تبحث في الواقع و في ما يتجاوزه, إذ هي التي تبحث في المسائل التي يقصيها العلم باسم الموضوعية، ذلك أن الإنسان في حاجة لا فقط للحقيقة العلمية الناجعة بل و أيضا للمعنى الذي تضفيه الفلسفة على الوجود الإنساني و على التاريخ، خاصة و أن العلم قد برهن على عجزه على حل كل مشاكل الإنسان بل أصبح هو ذاته مصدر خطر بالنسبة للإنسان، ذلك أن ماركوز يحمله مسؤولية تدني أوضاع الإنسان اليوم، بما أن العقلانية المطبقة على الوجود الإنساني في المستوى الإجتماعي و الأخلاقي و السياسي و الإقتصادي و الثقافي أماتت كل القيم الإنسانية باسم النجاعة و المنفعة. لكن مع ذلك لا يجب أن نحمل العلم مسؤولية تدهور أوضاع الإنسان اليوم لأن المسؤول الحقيقي هو سوء استخدام نتائج العلم و تكالب بعض الفئات على تحقيق المنفعة على حساب فئات أخرى, ذلك أن العلم ليس له أخلاق و لا يمكن أن يكون لاأخلاقيا مثلما أقر ذلك بوانكري.