سيمفونية الوجع الأخير
تم تقيم الموضوع من قبل 4 قراء
• 1
• 2
• 3
• 4
• 5
________________________________________
الكاتب: إيمان أكرم البياتي
15/6/2011 12:00 صباحا
كانت
عيناه الجاحظتين تتجولانِ في فضاء الغرفة بصمتٍ يغلفه القلق، تبحثانِ عن
الأمان بعد أن بات الأملُ عزيزاً على النفس وحلَّ اليأس ضيفاً ثقيلاً على
الصدر، لكن
أين هو الأمان والخريفُ المتعجل قد اغتصب الشباب من جسده
الفتي عنوة محولاً إياه إلى جسد نحيل يشبه في حاله الحزين جذع الشجرة
المتيبس القديم.
يبدو شاحباً متعباً هذا اليوم ضعيفاً أكثر من أي يومٍ
آخر مضى ولو كان وحده الإجهاد من يرفعُ رايات النصر في جسده اليوم لهان
عليه الأمر لكنه يتوجعُ بشكلٍ مختلف هذه المرة وروحه هي المتعبة الآن
والأكثر معاناة من جسدهِ حتى باتت رغبته في العيشِ في هذا العالم شبه
معدومة.
كان يبدو أفضل حالاً في مثل هذا اليوم من كل شهر بعد أن يكونَ
قد عاد من المستشفى وقد نُقل لجسده كيساً جديداً من الدم، لكنه حزينٌ اليوم
وحزنه فاضح يرسم خطوطه بعلانية على وجهه المسكين، يبدو أن ما قاله الطبيب
هو السبب فما زالَ كلامه يدورُ في رأسه ويضربُ كما المطرقة :
تَضخمَ الطحال ..تَجمُعُ الحديد في الدم هو السبب، لابد من أن نبدأ في التفكير جدياً في استئصالهِ قريباً حفاظاً على حياتك!
يتمتم الآن مع نفسهِ ويتهمُ الطبيب بالغباء مستفهماً باستنكار:
أيُ
حياة أيها الطبيب تلكَ التي تجعل منكَ شبه إنسان، تُولد مريضاً وتحملُ
العلة في كل أنحاء جسدك! لو كان عضواً مريضاً واحداً لاستأصلته ولانتهت
بذلكَ مأساتكَ لكنها في دمكَ، في ذلك السائل الأحمر اللعين الذي يتحكمُ في
كل حياتكَ ويتحركُ في كل أعضاءكَ بدون رخصة و دون توقف!أي حياةٍ في أن
تصبحَ نزيلا دائماً غير مرغوب فيه على أسرة المستشفيات الحكومية الباردة
ضعيفة الخدمات وان تنفقَ عليكَ عائلتكَ كل ما تملك لتشتري لكَ كل مرة بضعة
أيام أخرى تحيى بها معهم، بدلاً من أن تدخرها لتحمي بها نفسها من تقلبات
الزمن في بلد تنزلُ عليه الويلات واحدة بعد أخرى وله تاريخ طويل مع
التقلبات التي تأتي في كل صورة وفي كل نوع وكل لون وكل شكل ... حرب ...غلاء
معيشة ...بطالة ...فساد ...وتطول القائمة!
خرجتْ من صدرهِ آآآآآآه قوية
وهو يضعُ يده على المنضدة القريبة من سريره، سحبَ من الدُرج القريب الكيس
البلاستيكي الذي يضم الدواء الذي رافقه كظله طوال سنوات حياته، (ايكسجيد)
كم يمقتُ هذا الاسم؟! تلكَ الأقراص الفوّارة تبدو دائماً متغطرسة وكأنها
تلبس ثوب التفضل عليه لأنها تمنحهُ أياماً جديدة فوق عمره الشقي، امسكها
بين أصابعهِ بقوة كأنه يحاولُ خنقها ويخنق معها مرضه الذي لم يعلن انسحاب
جيوشه بعد ولا حتى توقفهم عن التحركِ في دمه رغم مرور عشرين عاماً على
حربها معه! ربما عدوه العنيد يطمحُ لحرب أربعينية السنوات كحرب البسوس!
(ابتسمَ
ساخراً)... كم تمنى أن يثأر لنفسهِ ولأخيه!...كم اشتاقَ له! رفع نظرَه إلى
صورتهِ ذات الإطار الخشبي اللامع المعلقة على الحائط قرب المرآة، انه
يبتسم في الصورة كعادته، كم يحسده على قوته وتحمله؟! كان يبتسمُ وهو يعاني
الألم ثم يبتسمُ و هو يموت... لقد توفي لذات المرض قبل عام! ومع أن المرض
قد أرداه قتيلاً على سرير بارد في مستشفى العاصمة إلا انه ظل يحاربه بعنادٍ
حتى الساعات الأخيرة، اعزلاً من أي سلاح غير إرادته في الحياة وعدم
التذمر.
فكر قائلاً بصوتٍ لا يسمعه سواه: كم هو جبارٌ هذا المرض يغتالُ
حياة أفراد عائلتنا واحداً تلو الآخر كدودة الشجر الضارة التي تضرب بالزرع
وتمتص خيره وتتركه شبحاً.
طُرق الباب طرقاً خفيفاً فقطعت عليه أفكاره،
إنها والدته تخبرهُ أن ابنة عمه جاءت لزيارته وتودُ أن تدخلَ عليه غرفته،
هزَّ رأسه بالموافقة وابتسم ساخراً مجدداً، هو يعلمُ مسبقاً بأنها ستأتي
كما تفعلُ دائماً بعد كل مرة يعود منها من المستشفى ضمن جدول مراجعته
الشهري، جاءت لترفعَ من همته وتشجعه خوفاً من أن يسقطه المرض سريعاً في
ساحة النزال وهي تذكرهُ بحبهما وحلمهما في الزواج وتُلقي بصوتها الحنون
أبياتَ الشعر الغزلية التي يكتبها كل مرة لأجلها بعد أن يسلمها لها بنفسه
حين تأتي لتعوده، حُزم الورق والقلم هنا إلى جوارهِ منذ أيام على حالها، لم
ينضم منذ أيام أي بيت وما عاد يرغب في الكتابة!
فتحت الباب برشاقةٍ
وأدخلتْ وجهها المشرق من حافته، بدتْ جميلة ورشيقة وهي تقتربُ بدلالٍ من
سريره وتمدُ كفها ليتصافحا بشوقٍ وحنان ثم تهمسُ قرب أذنيه بلهفة: اشتقتُ
لكَ.
لكنه بدا بارداً هذه المرة، لم يتحركْ أي شي في وجهه استجابة
لكلماتها وبدا حازماً وهو يطلبُ منها أن تجلسَ قربه على حافة السرير فهناكَ
ما يودُ إخبارها به.
شعرتْ أن هنالكَ أمر جلل فاختفت الابتسامة التي كانت تملأ وجهها، راح يبدأ حديثه بزفيرٍ طويل مبطناً بحسرة:
أمل...أنا ممتنٌ لحضوركِ... لكن...لكن لا جدوى من المتابعة!
حاولت أن تقاطعه: سعيد..
لا تقولي شيئاً أرجوكِ.... دعيني أكمل.
تابعَ
يقول: يا أمل ...مللتُ المرض الذي احمل، مللتُ الرقود في المستشفيات وكثرة
التوعك والشكوى، مللتُ استلام الدم من الآخرين ومللتُ الجري للبحث عن
متبرعين، عشرون عاماً وأنا استلم الدم كل ثلاثة أسابيع، ابحث عن متبرع تارة
واشتريه أخرى، حتى ضعف جسدي وتمزق جيب أسرتي لكثرة الإنفاق!
لستُ اسماً
على مسمى يا أمل، لستُ سعيداً، أنا رجل تعيس، بلا غد، بلا حلم..حتى حلم
حبنا يتحولُ إلى كابوس مخيف حين أفكر بان زواجي منكِ قد ينتج عنه أطفالاً
مصابين ب( الثلاسيميا الكبرى)!
انظري إلى وجهي جيداً( قالها وهو يشير
إلى رأسه): عظمُ جبهتي بارز والفك العلوي وعظام الوجنتين كذلك، إن نسيت
أنني مريض فسأتذكر الأمر كلما نظرتُ في المرآة وسيشعرُ به كلمن ينظرُ ألي!
تعبتُ
يا أمل..وباتت حياتي بلا أمل!... مظلمة داكنة كليلٍ طويل لا نهار له،
كبئرٍ عميق لا قرار له..حتى كتابة الشعر التي كنتُ اسلي نفسي بها ما عادت
لي رغبة فيها الآن، احبك، نعم اقسم على ذلك، لكن... العلة في جسدي تُصحر
ارض مشاعري!
لمعتْ عيناها وتحركت شفتاها وكأنها تنوي أن تقول شيئاً لكنه
قطع عنها الفرصة حين قال: أمل...أنتظرُ الموت في أي لحظة، لا تفكري بي
مجدداً أرجوكِ، لا تضعي أملا لزواجٍ مني قريب أو بعيد، لن اكرر مأساتي في
أولادي!
دمعتْ عينياها وهي تمسحُ على كفه على عجل ثم تخرج مسرعة باكية.
أما
هو فلقد نظرَ نظرة أخيرة إلى صورة أخيه المتوفى كأنه يودعها، ثم أطفأ نور
الغرفة ليسودَ الظلام ولتعزف سيمفونية الوجع ولتمطر سحب اليأس فوق وسادته
بأمطار الاستسلام!
ملاحظة/اللوحة للتشكيلي العراقي العالمي محمد سامي