.. ما أجمل الربيع .. فصل فيه تتفتح الزهور و تغرد فيه الطيور.. و
مشهد الحياة و الحركة و السرور كجنة خضراء تجري فيها الأنهار.. غمر الندى
أوراق الأشجار .. ياله من فصل جميل .. انه عروس الفصول.. فيه ولد حنين ..
طفل غاية في الجمال .. ذو الشعر الأشقر و عينان زرقاوان .. ابتسامته ساحرة
.. و بسمة ملء العيون كبسمة تشفي العليل .. أغار منه .. كل صباح أراه
يبتسم.. فتشرق الدنيا لرؤيته .. و يفوح عطره فيدب الحياة في القلوب.. .
حنين أصبح الآن صاحب الخمس سنوات.. طفل يتسم بالجمال و الأناقة أكثر مما
كان عليه.. اليوم صلى الفجر و شرب كأسا من الحليب بالتمر كما هي العادة..
ذهب إلى المدرسة .. انه يومه الأول .. ينشر كل الخير بسلام .. أو ببسمة من
ثغره .. طفل يرنو للمستقبل .. يراه في الدرس الأول .. المدرسة التي يدرس
فيها ليست ببعيدة عن داره .. و في صفه يجلس مع رفيقه أنيس .. مذ كان حنين
صغيرا لا يبلغ من العمر عامين و أنيس بصحبته .. انه صديقه الحميم .. زميله
في المدرسة .. يجلسان معا في الصف .. و في ساحة المدرسة .. يلعبان سويا في
الحارة .. تجمعهما براءة الأطفال .. مرحهم .. لهوهم ....
كبرا و كبرت
العلاقة بينهما .. أصبحا لا يفترقان إلا دقائق معدودة ثم يعودان ليلتقيا
من جديد .. ليس أخوان لكن أكثر و اكبر من ذلك ..
كل واحد منهما يعتبر الثاني أغلى و اعز من أخيه ..........
إنهما الآن في المرحلة الثانوية .. تخرجا من المرحلة الثانوية ثم الجامعة
معا .. التحقا بعمل واحد .. تزوجا أختين .. و سكنا في شقتين متقابلتين ..
رزق حنين بابن و بنت .. كذلك أنيس .. هو أيضا رزق ببنت و ابن ..
عاشا
معا أفراحهما و أحزانهما .. يزيد الفرح عندما يجمعهما .. و تنتهي الأحزان
عندما يلتقيان .. شريكان في الطعام و الشراب و السيارة .. يذهبان سويا و
يعودان سويا ..
إنهما متحابان
في الله .. فكليهما بحاجة للآخر دائما .. صداقتهما بعيدة عن مصالح الدنيا
التي باتت تغلب على أي صداقة دنيوية أخرى .. هما أخلاء الرخاء و البلاء ..
أوفياء بحق .. فما أجمل الصداقة و ما أروعها حين يسودها التفاهم و الصدق و
تغلفها الصراحة و الوضوح و ما أجملها حين تكون بعيدة عن التكلف و التزلف و
ما أروعها حين تخرج من القلوب .. الصداقة التي تجمعهما تساوي عدد العباد و
عدد النجوم و عدد الرمال .. تساوي أكثر و اكبر شيء .. إنها حب في الله ..
كل واحد منهما مخلص للآخر .. يحترمان بعضهما البعض .. كل منهما يفضل الآخر
على نفسه .. يرى الأخر مميز جدا .. في نظره رائع للغاية .. تهمه مصلحة
الأخر .. يخاف على الأخر .. كل منهما يحب أن يرى الثاني سعيدا دائما .. لا
يحب أن يراه حزينا .. يحب أن يساعده في كل شيء .. لا يحب أن يراه و هو
يبكي .. يحزنه ما يحزنه .. يحب أن يقدم له كل ما يحتاجه .. حتى أغلى
الأشياء و أهمها عنده .. كل واحد منهما يفكر في الأخر دائما .. توالت
الأحداث و مرت الأيام ثم الشهور ثم السنين حتى جاء يوم فيه يفترقان .. يوم
جد صعب .. يوم فيه رحل أنيس عن الدنيا و راح إلى حيث لا عودة و لا رجوع
أبدا للدنيا .. حنين لن و لم يتقبل فكرة فراق صديق طفولته و شبابه .. يبكي
و يبكي بحرقة .. .
أنيس يغسله احد الشيوخ .. و حنين شارك الشيخ في
تغسيل أنيس .. و هو بين خنين و نشيج و بكاء رهيب .. يحاول كتمانه أما
دموعه فكانت تجري بلا انقطاع .. و بين لحظة و أخرى يصبره الشيخ و يذكره
بعضم اجر الصابر.. و لسانه لا يتوقف عن قول " إنا لله و إنا إليه راجعون
.. لا حول و لا قوة إلا بالله .... "
بكاؤه افقد الشيخ التركيز ..
هتف به الشيخ .. إن الله ارحم بأخيك منك .. و عليك بالصبر .. التفت حنين
نحو الشيخ و قال " انه ليس أخي .. " ألجمت الشيخ المفاجأة .. مستحيل و هذا
البكاء و هذا النحيب .. قال حنين نعم انه ليس أخي لكنه أغلى و اعز من أخي
.. انه صديق الطفولة .. زميل الدراسة .. فقص حنين للشيخ قصته مع أنيس ..
فخنقته العبرة .. اخذ يردد سبحان الله .. و بكى الشيخ رثاء لحال حنين ..
انتهى
الشيخ من غسل أنيس و اقبل حنين يقبله .. لقد كان المشهد مؤثرا فقد كان
ينشق من شدة البكاء حتى ظن الشيخ انه سيهلك في تلك اللحظة .. راح حنين
يقبل وجه أنيس و رأسه و يبلله بدموعه .. حتى امسك به الحاضرون و أخرجوه
لكي يصلوا عليه .. فكانت جنازة تحمل على الأكتاف .. و لحنين جنازة تدب على
الأرض دبيبا .. و عند القبر وقف حنين باكيا يسنده بعض أقاربه .. سكن قليلا
و قام يدعو و يدعو لصديق الطفولة و الشباب ..
و في اليوم الثاني .. و بعد صلاة العصر حضرت جنازة لشاب .. اخذ الشيخ
يتأملها .. الوجه ليس غريب عنه .. شعر بأنه يعرفه .. و لكن أين شاهده ..
نظر الشيخ إلى والد المتوفي و قال " هذا الوجه اعرفه .. " تقاطر الدمع على
خدي الوالد و انطلق الصوت حزينا يا شيخ لقد كان بالأمس مع صديقه .. يا شيخ
بالأمس كان يناول المقص و الكفن .. يقلب صديقه .. يمسك بيده .. بالأمس كان
يبكي فراق صديقه .. .. .. .. ثم انخرط في البكاء ..
انقشع الحجاب ..
تذكره الشيخ .. تذكر بكاؤه و نحيبه .. ردد بصوت مرتفع كيف مات فقال الأب "
عرضت زوجته عليه الطعام فأبى و لم يقدر على تناوله .. قرر أن ينام .. و
عند صلاة العصر جاءت لتوقظه فوجدته ............ و هنا سكت الأب و مسح
دمعا تحدر على خديه .. _ فليرحمه الله _ لم يتحمل الصدمة في وفاة صديقه ..
و إنا لله و إنا إليه راجعون .. اسأل الله أن يجمعه مع صاحبه في الجنة يوم
أن ينادي الجبار عز و جل أين المتحابين في اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل
إلا ظلي ..
قام الشيخ بتغسيله و تكفينه .. ثم صلوا عليه .. توجهوا
بالجنازة إلى القبر .. و هناك كانت المفاجأة .... لقد و جدوا القبر
المجاور لقبر صديقه فارغا ..
قال الشيخ في نفسه " مستحيل .. منذ
الأمس لم تأتي جنازة " .. لم يحدث هذا من قبل .. انزلوه في قبره و وضع
الشيخ يده على الجدار الذي يفصل بين حنين و أنيس و هو يردد يا لها من قصة
عجيبة .. اجتمعا في الحياة معا صغارا و كبارا و جمعت القبور بينهما أمواتا
.. .
خرج الشيخ من القبر و وقف يدعو لهما " اللهم اغفر لهما و
ارحمهما .. اللهم و اجمع بينهما في جنات النعيم على سرر متقابلين .. في
مقعد صدق عند مليك مقتدر .. و مسح دمعة جرت ثم انطلق يعزي أقاربهما ..
أما
أنا فأصابني الذهول و تملكتني الدهشة من هذه القصة المثيرة و الفريدة من
نوعها و الغريبة .. و أخذت أدعو لهما بالرحمة و المغفرة ..
فما أجمل الصداقة حين تكون صادقة و بدون كذب أو خيانة ....
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته