قال سلمان الفارسي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليَّ الأرض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كُشِفَ عني جبل.
المناسبة:
اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكَّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديماً، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأً عاماً لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسَّكَ بحبل الدين المتين، وعمل صالحاً، فهو من الفائزين، سواء أكان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أم من الذين هادوا أي تابوا من أتباع موسى عليه السلام، أم من الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى عليه السلام أم من الذين تركوا دينهم مطلقاً وأسلموا، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
دعا تعالى أصحاب المِلَل والنِّحَل "المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين" إِلى الإِيمان الصادق وإِخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} المؤمنون أتباع محمد {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي الذين تابوا من أتباع موسى {وَالنَّصَارَى} الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى {وَالصَّابِئِينَ} قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي من آمن من هذه الطوائف إيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة وترك عقائد الشرك من التشبيه أو الكفر برسالة الإسلام وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصار مسلماً {وَعَمِلَ صَالِحًا} أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.
ما يستخلص من الآيات [62]:
.أفادت هذه الآية أن مدار الفوز على الإيمان بالله واليوم الآخر وعلامة ذلك العمل الصالح، لأن الإيمان إن لم يقترن بالعمل الصالح فهو عرضة للزوال، ولذا فقد قرن الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما قُرِنت الصلاة بالزكاة، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل"
لمّا ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم،جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة.
وذلك بعد أن أنجاكم وأهلك عدوكم بالغرق ورجع موسى عليه السلام بالألواح والتوراة ووجدكم قد عبدتم العجل، ثم أعرضتم عن اتباع ما جاء فيها زاعمين أنها فوق طاقتكم، عندها كان التأديب الإلهي لكم بأن رفع جبل الطور فوقكم وخيّركم بين الامتثال لأوامره وبين أن يطبق عليكم الجبل.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما في التوراة بجدٍّ وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين.
لما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم سجدوا خاشعين على الأرض مما يدل على قبولهم المنهج والتكاليف الربانية، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل خشية الوقوع عليهم. ولذلك سجود اليهود إلى يومنا هذا على جهة من الوجه، بينما تنظر الجهة الأخرى إلى أعلى. ولو سألتهم لقالوا: نحمل التوراة ثم يهتزون منتفضين لأنهم اهتزوا ساعة دفع الجبل عنهم، وهو الوضع ذاته في كل صلاة.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بقبول التوبة {وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.
فائدة: الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله الجنة.
أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.
ومن رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله تعالى.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك.
والقصة معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني {ولقد علمتم}- وهي أنتهم أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:
{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {فَجَعَلْنَاهَا} أي المسخة {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها وعاينها {وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.
ما يستخلص من الآيات [63-66]:
1- ذكرت هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله.
الأولى: يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم، ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
ولا تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه، ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.
الثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك سائرهم.
وقال بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.
2- دلت هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:48
لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.
سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.
و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.
ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.
ما يستخلص من الآيات [67-73]:
1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].
ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.
2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].
والأسئلة المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.
وأما السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.
3- كان الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن عندهم أمر تعظيمه.
4- المال الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء في الحديث (… حتى انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها ..." [تفسير ابن كثير 1/108].
5- أظهر الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة جَلّ جلاله.
ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد.
ذكر الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه الشيخان].
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.
والفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء ربنا.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية الله.
وحدث ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.
ما يستخلص من الآيات [74]:
1- أساس شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.
2- القلب معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.
3- الحجارة في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.
سبب النزول:
نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..} الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.
يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بَيِّناً جَلِياً {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأٍ أو نسيان.
هذه الآيات تحمل أعظم تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه مكلف بالبلاغ فقط، ولكن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل الأرض كلهم لا يعني أنه لم يفهم خطاب ربه، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله.
والطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوباً لها. فكلمة "أفتطمعون" هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. وهداية اليهود أمر زائد على ما كُلِّفنا به وإن كان محبوباً لدينا. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 20-24].
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون من اليهود: آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي إِذا انفرد واختلى بعضهم ببعض {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.
قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!
ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها {إِلا أَمَانِيَّ} أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إِلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
الأماني جمع أمنية، وهي الشيء الذي يحب الإنسان تحققه وهو مستحيل الحدوث عادة. كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأُخبره بما فعل المَشيبُ
ومَنْ فاته شبابه لن يعود إلى يوم القيامة.
ما يستخلص من الآيات [75-78]:
1- النفاق ظاهرة عامة موجودة عند جميع الأجناس، فليس هو محصوراً فيمن نافق من أهل المدينة فقط، بل هو موجود عند أهل الكتاب من اليهود كما أشارت الآيات، وعند النصارى وغيرهم ومن هنا وجب على المسلمين أخذ الحيطة حتى لا ينخدعوا بالإيمان المزيّف، ويتجرعوا من ورائه الويلات.
2- دلَّت الآية الأخيرة من هذا المقطع {وإن هم إلا يظنون} على بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، فلا بد للإيمان من يقين يقوم على الحجة والبرهان وهو ما عليه سلف هذه الأمة إذ كل من قلَّد في التوحيد إيمانه لا يخلو من ترد يد. ولذا قال الحق جل وعلا {فاعلم أنه لا إله لا الله} والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:49
نزلت الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: "الذين غيّروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدلوا نعته"، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فَمَحَوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً أزرق، سبط الشعر.
ونزلت الآية (80) كما قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ}. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تَحِلَّة القَسَم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.
ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أي هلاك وعذاب لأولئك الذي حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي يقولون لأتباعهم الأميِّين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني {فوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت.
فائدة: الويل يعني الحسرة وقت رؤية العذاب، وقيل: هو واد في جهنم يهوي الإنسان فيه سبعين خريفا.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أي لن ندخل النار إلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط.
فائدة: المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء بحيث يحس أحدهما بالآخر إحساساً لا يكاد يذكر. وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، وأقل الأقل في مدة العذاب، فقالوا أياماً معدودة. وهو دليل غبائهم لأن مدة المسّ لا تكون إلا لحظة ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم، فجاء الرد الإلهي:
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} لأن الله لا يخلف الميعاد {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهموأنهم لا يخلدون فيها فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي ارتكب إلى جانب كفره السيئات {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً.
فائدة: "بلى" حرف جواب في النفي، أي ينفي الذي قبله. أي قولكم {لمن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} غير صحيح، بل ستخلدون فيها. ومن هنا فإذا قال لك إنسان: ليس لك عندي شيء. وأردت أن تنفي ذلك، فعليك أن تقول: بلى. ولو قلت: نعم. تكون قد أثبتْتَ ما ادعاه.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
ما يستخلص من الآيات [79-82]:
1- أفاد قوله تعالى {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} مَدَى تعمد هؤلاء اليهود للإثم. لأن الإثم قد يرتكب بالأمر وقد يرتكب بالفعل. فرئيس الدولة غالباً لا يكتب الكتب بيده وإنما تكتب بأمره ولكن هؤلاء الأحبار حرفوا وبدلوا كلام الله بأيديهم ليتأكدوا أن الأمر قد تم كما يريدون، فليست المسألة نزوة عابرة ولكنها مع سبق الإصرار والترصد، وموقمة العصيان.
2- تضمنت الآية {فويل للذين يكتبون الكتاب…} التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدّل وغيّر وابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد إلا أن هذا التبديل والتحريف على نوعين، الأول: تبديل وتحريف في الحروف والألفاظ وهو الأشد، والثاني: تحريف وتبديل في المعاني والأحكام التي تستخلص من الألفاظ والحروف. ولئن سلمت هذه الأمة من الوقوع في الأول لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقد وقع بعض هذه الأمة في الثاني والعياذ بالله، وما تلك الفتاوى الباطلة -كإباحة الفوائد الربوية القليلة، والاستعانة بالمشركين لقتال المسلمين- التي يبتغي بها عرض من الدنيا قليل أو التزلف للحكام والسلاطين، ببعيد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنوا إسرائيل إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في لنار إلا واحدة" فاللهم اجعلنا من الفرقة الناجية.
3- أفاد قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته…} أن المعصية وحدها لا تخلد صاحبها في النار ما لم تكن مقرونة بالشرك، ومن هنا فأنسب تفسير لـ {أحاطت به خطيئته} هو الشرك بالله، لأنه هو الذي يحيط بالإنسان من كل جانب ويحجب عنه رحمة الله، ودليل ذلك قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ولما كان هؤلاء اليهود -ومن سار على طريقهم- عصاة ومشركين استحقوا الخلود في النار {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
4- أرشدت الآية الأخيرة {والذين آمنوا وعملوا الصالحات…} إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقيف، وقد سأله: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قل: قل آمنت بالله ثم استقم".
5- يستخلص من الآيتين الأخيرتين منهج تربوي فريد في معالجة النفس البشرية في جميع مراحلها، ألا هو الجمع بين الوعد الوعيد أو الترغيب والترهيب، وقد تكرر ذلك في القرآن كثيراً.
لا تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} بأن لا تعبدوا غير الله.
وهذه العبادة تستلزم إفراد الله بالألوهية والإيمان بموسى عليه السلام وبالتوراة وبمن جاء وصفه في التوراة وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً.
الإحسان هو ما زاد على الواجب، فنحن مطالبون بأن نؤدي إليهم الواجبات وما زاد عنها من نوافل. ولأهمية الإحسان إلى الوالدين فقد قرنه بعباده في عدة مواضيع منها قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً…} [الإسراء: 43].
{وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي وأن يحسنوا أيضاً إِلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار.
لأن الآباء هم الذين يكافحون في الحياة ليرعوا أولادهم. فإذا رعى المجتمع الإسلامي اليتيم عَمّت الطمأنينة بين أفراده، فلا أبٌ يخشى على أولاده بعد موته، ولا يتيم يخشى على ماله من الضياع أو على نفسه من الإهمال إذا خلفه أبوه فقيراً، ولا غني يخشى على ماله من زواله بالاختلاس أو الحسد لأن التكافل أورث بين أفراد المجتمع المحبة والألفة.
والمساكين الذين عجزوا عن الكسب.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الرُّكْنَيْن العظيمين "الصلاة، والزكاة" لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم ثبتوا عليه.
فائدة: توليتم، يعني أعرضتم، إلا أن التولي قد يكون بنية حسنة كما في قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]. فالتولي بنية الهرب مذموم، ولكنه إذا كان بنية إعانة فئة أخرى من المسلمين أو تغيير الموقع للانقضاض على العدو فهو محمود.
والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يلفت نظرنا إلى أن اليهود تولوا بنية الإعراض لا بنية أخرى ولذا قال تعالى {ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} فأكد نواياهم السيئة بقوله {وأنتم معرضون}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم بعضاً.
فائدة: لماذا قال الله تعالى {لا تسفكون دماءكم} مع أن المراد قتل الغير؟
وكذلك قوله {ولا تُخرجون أنفسكم} مع أن المراد إخراج الغير.
والجواب أن الله تعالى تخاطب الجماعة المؤمنة على أنها وحدة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه البخاري] فمن قتل أخاه فكأنما قتل نفسه.
{وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإِخراج من الديار، والإِجلاء عن الأوطان {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي ثمّ اعترفتم بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه، وأنتم تشهدون بلزومه.
{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إِقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفاتٍ إِلى العهد الوثيق {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} أي إِذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر {وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ أِخْرَاجُهُمْ} أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعض؟ والغرض التوبيخ لأنهم جمعوا بين الكفر والإِيمان، والكفر ببعض آيات الله كُفْرٌ بالكتاب كله، ولهذا عقّب تعالى ذلك بقوله {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ما عقوبة مَن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان، ومقتٌ وغضب في الدنيا {وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي وهم صائرون في الآخرة إِلى عذاب أشدّ منه، لأنه عذاب خالد لا ينقضي ولا ينتهي {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وفيه وعيد شديد لمن عصى أوامر الله.
فائدة: كانت (بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، يخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}.
ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة بمعنى اختاروها وآثروها على الآخرة {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لا يُفتَّر عنهم العذاب ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.
ما يستخلص من الآيات [83-86]:
1- الأمور التي أمر الله بها بني إسرائيل في الآية (83) وأخذ منهم العهد عليها أمر بها تعالى جميع الخلق، وهي تكوِّن النظام الديني والاجتماعي والأخلاقي وقد رتبها ترتيباً دقيقاً متناسقاً، فقدم حق الله تعالى في أفراده بالعبودية لأنه هو المنعم والمتفضل على جميع خلقه، ثم ذكر الوالدين لأنهما سبب وجود الإنسان، وهم اللذان رعاياه صغيراً حتى كبر واشتد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم ثم المساكين لضعفهم، ثم أمر تعالى بالقول الحسن لإبعاد الشيطان عن بني البشر مصداقاً لقوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، ثم ختم جل جلاله تلك الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الأولى تقوي الصلة بين العبد وربه ومَنْ قويت صلته بربه التزم أوامره التي تحثه على الإحسان لخلقه. والثانية تقوى الصلة بينه وبين الخلق وتخرج الدنيا من قلبه، وبهذا يحدث الترابط والتكافل بين أفراد المجتمع وهو ما يقصد إليه الشارع الحكيم.
2- السبب الأساسي في الإعراض عن شرع الله تعالى هو التعلق بالدنيا وجعلها غاية وهدفاً حتى يشرب القلب بحبها، ولذا ختم المقطع القرآني بـ {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} فحب الدنيا رأس كل خطيئة كما جاء في الحديث الشريف، ولذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من التعلق بالدنيا، فقال: "ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
فالتعامل مع الدنيا أمر مطلوب شرعاً، ولكن على أن تكون وسيلة للبناء والترابط والتكافل، لا على أن تكون هدفاً وغاية في حد ذاته تستعمل في سبيل تحقيقها كل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بحيث يصبح المرء لا يجد أي حرج في سفك الدماء والبطش بكل مَنْ تسول له نفسه بمنافسته فيها، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- الشريعة كل متكامل فلا يجوز أن نطبق بعضها ونعرض عن الآخر بحجة أنها لم تعد صالحة لهذا الزمان، لأن هذه المقولة من أساسها باطلة عِلميَّاً وواقعاً.
فمن جزّأ الشريعة وهو يعتقد صحة ما ذهب إليه فقد كفر بإجماع المسلمين وهو ما أشار إليه البيان القرآني {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
ومن جزّأها من حيث التطبيق تكاسلاً وهو يعتقد صلاحيتها فقد فسق وانحرف.
لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات الكريمة تذكير لهم بضربٍ من النعم التي أمدّهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام، كعادتهم في مقابلة الإِحسان بالإِساءة، والنعمة بالكفران والجحود.
سبب نزول الآية (89):
قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غَطَفان، فكلما التقوا هُزِمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم" فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بك يا محمد، إلى قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود:اتقوا الله وأَسلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة 2/89].
وقال السُّدِّي: "كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسداً، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل".
بعد أن بيّن الله لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام، أراد جل جلاله أن يبيّن لنا موقفهم مع رسل وأنبياء كثيرين جاؤوا بعد موسى عليه السلام، فقال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي أعطينا موسى التوراة {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي أتبعنا وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل.
بل كانت الرسل والأنبياء تأتيهم واحداً بعد الآخر على فترات قريبة وربما اجتمع أكثر من نبي في فترة واحدة ليذكروهم وينهوهم عن غيِّهم وانحرافاتهم وما أحدثوه من فساد بعد موسى عليه السلام. وقد اعتبر اليهودُ كثرة الرسل والأنبياء فيهم ميزة ومفخرة لهم على سائر الأمم، ولكنهم قوم مغفّلون مغرورون لأن كثرة الأنبياء والرسل دلالة على كثرة الفساد الذي انتشر فيهم. ذلك أن الله يرسل رسله لتذكير الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ألا ترى إلى المريض الذي تعددت أمراضه كيف يكثر حوله الأطباء؟ فلا حجة لهم يوم القيامة.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي أعطينا عيسى الآيات البينات والمعجزات الواضحات الدالة على نبوته {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويناه وشددنا أزره بجبريل عليه السلام.
فإن قيل: ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين روح القدس فلماذا التخصيص؟ والجواب أن جبريل عليه السلام كان مصاحباً لعيسى عليه السلام منذ بداية تخلقه في بطن أمه إلى أن رفعه الله إليه في السماء، فولادته لم تكن مألوفة لدى الناس مما جعل جبريل عليه السلام لا يفارقه حتى يرد كيد الناس عنه بشتى الطرق التي كلفه الله بها.
{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ} أي أفكلما جاءكم يا بني إِسرائيل رسول بما لا يوافق هواكم {اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي تبرتم عن اتباعه فطائفة منهم كذبتموهم، وطائفة قتلتموهم ..
التكذيب مسألة منكرة، ولكن القتل أمر بشع، فيحن ترى إنساناً أو حاكماً ظالماً يريد أن يتخلص من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه، ولو كان ذا رجولة ومروءة لقابل الحجة بالحجة ولما تجرّأ على قتله.
ثم أخبر تعالى عن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّن ضلالهم في اقتدائهم بالأسلاف فقال حكاية عنهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي في أكنة، والغلف مأخوذ من الغِلاف، فهي مُغَلّفَة لا تفقه ولا تعي ما تقوله يا محمد، والغرض إِقناطه عليه الصلاة السلام من إِيمانهم، قال تعالى رداً عليهم {بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته بسبب كفرهم وضلالهم {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي فقليلٌ من يؤمن منهم، أو يؤمنون إِيماناً قليلاً وهو إِيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وهو القرآن العظيم الذي أنزل على خاتم المرسلين، مصدقاً لما في التوراة {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقد كانوا قبل مجيئه يستنصرون به على أعدائهم.
وهم كفار المدينة من الأوس والخزرج.
ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة.
وكانوا يقولون لأهل المدينة أيضاً: أهل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرفوه حق المعرفة كفروا برسالته {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي لعنة الله على اليهود الذين كفروا بخاتم المرسلين.
فائدة: كفر اليهود وعنادهم كان أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأوس والخزرج عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكروا تهديد اليهود لهم به ونعوته فسارعوا للإيمان به ومبايعته ونصرته، فعظم من سخر أعداءه لنصرة شريعته.
ما يستخلص من الآيات [87-89]:
1- كثرة الرسل والأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل يدل على مدى العناية الإلهية بهم، ولكنهم قوم أشربت قلوبهم باللؤم فقابلوا النعم الكثيرة بالعناء والاستكبار والتكذيب ثم ختموا ذلك بأبشع جريمة عرفتها البشرية ألا وهي قتل أنبياء الله وأصفيائه، فاستحقوا لأجل ذلك اللعنة والطرد من رحمة الله والختم على القلوب {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 98] كما حدث لفرعون وقومه.
2- من صفاته تعالى "العدل" فهو منزّه عن الظلم {وما ربك بظلام للعبيد} ولذا أجاب عن سبب ختمه على قلوبهم وطرده المعاندين المستكبرين منهم من رحمته، فقال: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي بسبب جحودهم وإعراضهم عن الحق استكباراً بعد ما تبيّن لهم ناصعاً لا غبار عليه، لأن الكفر هو الجحود والتغطية. ولا أدلّ على ذلك الجحود من تكذيبهم رسالة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج. فنعوذ بالله من الكب والمتكبرين.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:50
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي بئس الشيء التافه الذي باع به هؤلاء اليهود أنفسهم واشتروا الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فخسروا الصفة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله {بَغْيًا} أي حسداً وطلباً لما ليس لهم {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم لأجل أن يُنَزّل الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه، فلقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كذبوا وقتلوا فكان مقتضى حكمته وعدله أن يعاقبهم بنزع الرسالة منهم وإعطائها لخير أمة أخرجت للناس ولذلك بغوا وحسدوا، فكان العقاب الإلهي: {فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق غضبه عليهم، فنالوا غضبين: الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة، والثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به ولكنهم كفروا به حسداً فاستحقوا غضباً ثانياً. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي ولهم عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال لأن كفرهم سببه التكبر والحسد فقوبلوا بالإِهانة والصغار.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي يكفرون بالقرآن مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي قل لهم يا محمد إِذا كان إِيمانكم بما في التوراة صحيحاً فلم كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل إِذا كنتم فعلاً مؤمنين؟ وكأن الحق أخذ الحجة لدحض كذبهم من قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} فإذا كان هذا صحيحاً فهل يوجد في التوراة التي تؤمنون بها ما يبيح لكم قتل الأنبياء؟ ولكنه التمرّد الذي رُبّوا عليه ووَرَّثوه لأبنائهم جيلاً بعد جيل.
ما يستخلص من الآيات [90-91]:
1- الإنسان السويّ العاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمن، ولذا ندّد القرآن بفعل اليهود مقرراً: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث استبدلوا الباطل بالحق والكفر بالإيمان.
2- مَنْ لم يؤمن بما أنزل عليه فلا مطمع في الإيمان ما أنزل على غيره.
3- علّمنا القرآن الكريم في الآية (91) كيف نُفحِم المخالف ونبطل دعواه من خلال أقواله {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} كما يقول المثل: من فمك أدينك.
هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إِلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الباهرات {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي عبدتم العجل من بعد ذهابه إِلى الطور، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع.
وهذه الحجة ثانية على أنكم كاذبون في قولكم {نؤمن بما أنزل علينا} فالإيمان بالتوراة ينافي عبادة العجل.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي اذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم.
وينبغي أن نعلم أن رفع الجبل فوقهم لم يكن لإجبارهم على أخذ الميثاق لأنهم اتبعوا موسى عليه السلام قبل رفع الجبل، ولكنهم قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمحسوس فأراد الله تعالى أن يخوّفهم ليعودوا لإيمانهم، وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين.
{وَاسْمَعُوا} أي سماع طاعة وقبول.
{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
فائدة: هناك قول وفعل وعمل فالقول أن تنطق بلسانك، والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ، والعمل أن يطابق القول الفعل. فهم سمعوا ما قاله لهم الله تعالى وعصوه. ولكن {عصينا} ليست معطوفة على {سمعنا} وإنما هي معطوفة على {قالوا} قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا، فهم لم يقولوا الكلمتين، وإنما قالوا سمعنا، ولم ينفذوا ما أمرهم الله به بأفعالهم.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي خالط حبُّه قلوبَهم، وتغلغل في سويدائها، والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم، فهم كفروا أولاً، وبكفرهم دخل العجل إلى قلوبهم وختم عليها.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع، والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل. وقوله تعالى {إن كنتم مؤمنين} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين، لأن قلوبهم مشربة بحب العجل الذي عبدوه.
ما يستخلص من الآيات [92-93]:
1- الإيمان الصحيح هو الذي يجعل صاحبه منسجماً في سلوكه مع مقتضى ما آمن به. ولكن اليهود على خلاف ذلك فزعموا وادعوا أنهم آمنوا بالتوراة التي ترشدهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً من دون الله فبئس هذا الإيمان الذي يصنع إنساناً متنقضاً في حيته وسلوكه تجاه ما آمن به.
2- علامة الإيمان الصحيح المقبول عند الله أن يطابق السلوك الخارجي المعتقد الداخلي في القلب، وعلامة الإنسان السويّ أني طابق فعلُه قوله، فنعوذ بالله من قوم {قالوا سمعنا} بألسنتهم و{عصينا} بأفعالهم.
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً…} [البقرة: 94].
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم {فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها.
ثم قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوى الكاذبة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسب ما اجترحوه من الذنوب والآثام.
وفي قوله تعالى {لن يتمنوه} إعجاز قرآني، لأن الله حكم حُكماً نهائياً في أمر اختياري لعدو يكيد الإسلام، وكان من الممكن أن يفطن هؤلاء اليهود ويقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: "نحن نتمنى الموت فادع لنا ربك يميتنا". من أجل أن يشككوا في هذا الدين، ولكنهم إلى الآن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لأنهم يعلمون أنه الحق ولو طلبوا ذلك لماتوا حقاً، وهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، بل يحبون الحياة أكثر من غيرهم كما سيأتي.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم.
لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون من عذاب الآخرة. وأما المشركون فلا آخرة لهم لعدم إيمانهم بها، فالدنيا هي الغاية، ولذا لا يخافون من عواقب الموت كما يخاف منها اليهود الذين أجرموا فالمشرك إن خاف من الموت فلكونها تقطعه عن لذة الدنيا. وأما اليهود فيخافون الموت لفوات لذات الدنيا ويخافونها أكثر لما ينتظرهم من خزي وعذاب على إجرامهم وطغيانهم.
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما طول العمر - مهما عمّر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله.
وسبب عداوتهم لجبريل عليه السلام أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وعلى الظالمين المستكبرين بالعذاب، فقد سأل ابنُ جوريا -أحد أحبارهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الذي ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جبريل. فقال اليهودي: لو كان غيره لآمنّا بك. جبريل عدونا لأنه ينزل دائماً بالخسف والعذاب ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب". وقد غفل هؤلاء الحمقى أن الملائكة كلهم ينفذون أوامر الله. فمن عادى أحدهم فقد عادى أمر الله.
{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ولا شأن لجبريل في ذلك فلماذا تعادونه؟ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص "جبريل وميكائيل" فهو كافر عدو لله {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} لأن الله يبغض من عادى أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاداه الله، ففيه الوعيد والتهديد الشديد.
فالعداوة للرسل مثل العداوة للملائكة مثل العداوة لجبريل وميكائيل مثل العداوة لله جل جلاله، فمصدر الدين واحد وهو الحق تعالى والرسل والملائكة سفراء الله إلى عباده أمناء على ما كلفهم الله بتبليغه.
ما يستخلص من الآيات [94-98]:
1- دلت الآيتين (94-95) على أن أساء وظلم في دنياه لا يتمنى الموت أبداً، وأما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله وكرمه له في الجنة.
فإن قيل: ما معنى النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعلمه" [رواه أحمد في مسنده].
فالجواب: أن تمني الموت المنهى عنه يكون بقصة الاحتجاج على المصائب والآلام هروباً من قدر الله تعالى، وكأنه كره قدر الله وهذا مناف للإيمان.
وأما تمني الموت من الرجل الصالح بقصد محبة لقاء الله تعالى فهو أمر مستحب يشرحه قوله عليه الصلاة والسلام "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" وهو معنى قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].
2- تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهنا لون آخر من الاعتذار وهو كون جبريل عليه السلام نزل وبالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل من أعدائهم كما زعموا، ولكنه العناد، وحجتهم باطلة، فهو أمين الوحي بين الله ورسله، وعداوته تعني عداوة الله ورسله.
3- كشفت هذه الآيات عن مادية اليهود، فهم يقيسون الأمر على البشر لتصورهم أن الذي يجلس عن يمين السيد والذي يجلس عن يساره يتنافسان على المنزلة عنده ولكن هذا في دنيا البشر، وقد فات هؤلاء أن الملائكة منزهون عن هذا التنافس {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون}.
بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد، وتكذيب رسل الله، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه السلام، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله، وعدم الوفاء بالعهود، وتكذيب الرسل، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عارضوا دعوته، وأعرضوا عن القرآن الكريم.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الفَاسِقُونَ} أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب بها إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي أيكفرون بالآيات وهي في غاية الوضوح وكلّما أعطوا عهداً نقضه جماعة منهم؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصدق لذلك ينقضون العهود والمواثيق.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكليةلأنها تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فجحدوا وأصروا على إِنكار نبوته مما جعلهم يطرحون الكتاب وراء ظهورهم حتى نسوه تماماً ولا يلتفتوا إليه. بخلاف ما لو طرحوه أمامهم فإن رؤيته قد تذكرهم بالرجوع إليه.
{كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً.
أفاد قوله تعالى {نبذ فريق منهم} أن بعض اليهود تمسك بالكتاب واهتدى إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم كابن سلام وكعب الأحبار وغيرها.
سبب نزول الآية (102):
قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبياً؟ والله ما كان إلا ساحراً، فأنزل الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك، قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:50
اشتغال اليهود بالسحر {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(102)وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(103)} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي اتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تُحَدِّثُهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي وما كان سليمان ساحراً ولا كفر بتعلُّمه السحر {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} أي ولكنّ الشياطين هم الذين علموا الناس السحر حتى فشا أمره بين الناس {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} أي وكما اتبع رؤساء اليهود السحر كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكيْن وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس فقد نجا، ومن تعلمه ليلحق ضرره بالناس فقد هلك وضل. قال تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أي يتعلمون منهما من علم السحر ما يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، فبعد أن كانت المودة والمحبة بينهما يصبح الشقاق والفراق {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما هم بما استعملوه من السحر يضرون أحداً إِلا إِذا شاء الله {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} أي والحال أنهم بتعلم السحر يحصلون على الضرر لا على النفع. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي ولقد علم اليهود الذين نبذوا كتاب الله واستبدلوا به السحر، أنهم ليس لهم حظ من رحمة الله ولا من الجنة لأنهم آثروا السحر على كتاب الله {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ولبئس هذا الشيء الذي باعوا به أنفسهم لو كان لهم علم أو فهم وإِدراك. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر، الذي لا يعود عليهم إِلا بالويل والخسار والدمار. سبب نزول الآية (104): قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان "راعنا" في كلام اليهود سباً قبيحاً، فقالوا: إنا كنا نسب محمداً سراً، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفاً بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنَّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} الآية. سبب نزول الآية (105): قال المفسرون: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيراً، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم. من أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105)} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه فيقول {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} أي راقبنا وأمهلنا حتى نتمكن من حفظ ما تلقيه علينا {وَقُولُوا انظُرْنَا} أي انتظرنا وارتقبنا {وَاسْمَعُوا} أي أطيعوا أوامر الله ولا تكونوا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولليهود الذين نالوا من الرسول وسبّوه، عذاب أليم موجع. {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيء من الخير، بغضاً فيكم وحسداً لكم {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يختص بالنبوة والوحي والفضل والإِحسان من شاء من عباده {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والله واسع الفضل والإِحسان. سبب نزول الآية (106): قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، ما في هذا القرآن إلا كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً، مثل تغيير حد الزاني بالتعيير باللسان: {فآذوهما} والزانية بالإمساك في البيوت: {فأمسكوهن ..} إلى الجلد، فأنزل الله: {وإذا بدَّلنا آيةً مكانَ آيةٍ} الآية [النحل: 101] وأنزل أيضاً: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106]. سبب نزول الآية (107): قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ بن كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً، وَوَسِّع لنا أرض مكة، وفجّر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رافع بن خزيمة ووهب بن زيد لرسول الله: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء، نقرؤه، أو فجّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}. سبب نزول الآية (108) وما بعدها: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود، حسداً للعرب، إذ خصّهم الله برسوله، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية (109). وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً أن يجعل لهم الصفا ذهباً، قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، إن كفرتم، فأبوا ورجعوا،فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} الآية. المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قبائح اليهود، وما اختصوا به من ضروب السحر والشعوذة، أعقبه ببيان نوع آخر من السوء والشر، الذي يضمرونه للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، من الطعن والحقد والحسد، وتمني زوال النعمة عن المؤمنين، واتخاذهم الشريعة الغراء هدفاً للطعن والتجريح بسبب النسخ لبعض الأحكام الشرعية. نسخ الأحكام الشرعية {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(107)أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(108)} ثم قال تعالى رداً على اليهود حين طعنوا في القرآن بسبب النسخ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أي ما نبدّل من حكم آية فنغيره بآخر أو ننسها يا محمد أي نمحها من قلبك {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أي نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون بما هو أنفع لكم في العاجل أو الآجل، إِما برفع المشقة عنكم، أو بزيادة الأجر والثواب لكم {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله عليم حكيم قدير، لا يصدر منه إِلا كل خير وإِحسان للعباد!! {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم أن الله هو المالك المتصرف في شؤون الخلق يحكم بما شاء ويأمر بما شاء؟ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي مالكم وليٌّ يرعى شؤونكم أو ناصر ينصركم غير الله تعالى فهو نعم الناصر والمعين. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي بل أتريدون يا معشر المؤمنين أن تسألوا نبيكم كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل ويكون مثلكم مثل اليهود الذين قالوا لنبيهم {أرنا الله جهرة} فتضلوا كما ضلوا {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي. سبب نزول الآية (109): قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هُزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم. المناسبة: بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم، ذكر هنا وجه العلّة، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم. حسد أهل الكتاب للمؤمنين وكيفية الرد عليهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109)وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110)} {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي تمنى كثير من اليهود والنصارى {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} أي حسداً منهم لكم، حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة أن دينكم هو الحق {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي اتركوهم وأعرضوا عنهم فلا تؤاخذوهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان. {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي حافظوا على عمودي الإِسلام وهما "الصلاة والزكاة" وتقربوا إِليه بالعبادة البدنية والمالية {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي ما تتقربوا به إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً تجدوا ثوابه عند الله {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين. سبب النزول: عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أخبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}. رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(111)بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112)وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113)}. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} أي قال اليهود لن يدخل الجنة إِلا من كان يهودياً، وقال النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي تلك خيالاتهم وأحلامهم {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي قل لهم يا محمد ائتوني بالحجة الساطعة على ما تزعمون إِن كنتم صادقين في دعواكم. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي بلى يدخل الجنة من استسلم وخضع وأخلص نفسه لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي وهو مؤمن مصدّقٌ متبعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم {فلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فله ثواب عمله ولا خوف عليهم في الآخرة ولا يعتريهم حزنٌ أو كدر بل هم في نعيم مقيم. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} أي كفر اليهود بعيسى وقالوا ليس النصارى على دين صحيح معتدٍّ به فدينهم باطل {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} أي وقال النصارى في اليهود مثل ذلك وكفروا بموسى {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي والحال أن اليهود يقرؤون التوراة والنصارى يقرؤون الإِنجيل فقد كفروا عن علمٍ. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قوْلِهِمْ} أي كذلك قال مشركو العرب مثل قول أهل الكتاب قالوا: ليس محمد على شيء {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يحكم بين اليهود والنصارى ويفصل بينهم بقضائه العادل فيما اختلفوا فيه من أمر الدين. سبب نزول الآية (114): هناك روايتان عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، ففي رواية نزلت في ططلوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرفوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف. وفي رواية نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام. جزاء مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أيِّ مكان طاهر {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115)} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة كما فعل كفار قريش {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَ خَائِفِينَ} أي ما ينبغي لأولئك أن يدخلوها إِلا وهم في خشية وخضوع فضلاً عن التجرؤ على تخريبها أو تعطيلها {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي لأولئك المذكورين هوانٌ وذلة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي لله مكان شروق الشمس ومكان غروبها والمراد جميع الأرض {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي يسع الخلق بالجود والإِفضال، عليم بتدبير شئونهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم. المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى افتراء اليهود والنصارى وزعمهم أن الجنة خاصة بهم لا يشاركهم فيها أحد أعقبه بذكر بعض قبائحهم وقبائح المشركين في ادعائهم أنَّ لله ولداً حيث زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله فأكذبهم الله وردّ دعواهم بالحجة الدامغة والبرهان القاطع. افتراءات أهل الكتاب على الله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ(116)بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(117)وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118)}. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هو قول اليهود والنصارى والمشركين فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله فأكذب الله الجميع في دعواهم فقال {سُبْحَانَهُ} أي تقدس وتنزّه عما زعموا تنزهاً بليغاً {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بل للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عُزَير والمسيح والملائكة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي الكل منقادون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إِذا أراد إيجاد شيء حصل من غير امتناع ولا مهلة فمتى أراد شيئاً وجد بلمح البصر، فمراده نافذ وأمره لا يتخلف {وما أمرنا إِلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر}. {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} المراد بهم جهلة المشركين وهم كفار قريش {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلاً يكلمنا الله مشافهة أو بإِنزال الوحي علينا بأنك رسوله {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أي تكون برهاناً وحجة على صدق نبوتك، قالوا ذلك استكباراً وعناداً {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي مثل هذا الباطل الشنيع قال المكذبون من أسلافهم لرسلهم {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتكذيب للأنبياء وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي قد وضحنا الأدلة وأقمنا البراهين لقومٍ يطلبون الحق واليقين، وكلها ناطقة بصدق ما جئت به. عاقبة من يترك الحق بعدما تبين له {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ(119)وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(120)الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)}. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي أرسلناك يا محمد بالشريعة النيّرة والدين القويم بشيراً للمؤمنين بجنات النعيم، ونذيراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي أنت لست مسؤولاً عمن لم يؤمن منهم بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم {إِنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} أي لن ترضىِ عنك الطائفتان "اليهود والنصارى" حتى تترك الإِسلام المنير وتتبع دينهم الأعوج {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أي قل لهم يا محمد إِن الإِسلام هو الدين الحق وما عداه فهو ضلال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي ولئن سايرتهم على آرائهم الزائفة وأهوائهم الفاسدة بعدما ظهر لك الحق بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لك من يحفظك أو يدفع عنك عقابه الأليم. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مبتدأ، وهم طائفة من اليهود والنصارى أسلموا {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يقرءونه قراءة حقة كما أنزل {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} هذا خبر المبتدأ، أي فأولئك هم المؤمنون حقاً دون المعاندين المحرفين لكلام الله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي ومن كفر بالقرآن فقد خسر دنياه وآخرته.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:51
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا نعمي الكثيرة عليكم وعلى آبائكم {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي واذكروا تفضيلي لكم على سائر الأمم في زمانكم {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تغني فيه نفس عن نفس ولا تدفع عنها من عذاب الله شيئاً، لأن كل نفسٍ بما كسبت رهينة {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تفيدها شفاعة أحد لأنها كفرت بالله {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي لا يدفع عنهم أحد عذاب الله ولا يجيرهم من سطوة عقابه.
سبب نزول الآية (125): {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}: روى البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو أخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البَرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: {عَسَى ربُّه إن طلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَه أزواجاً خَيْراً منكن} [التحريم: 5] فنزلت.
المنَاسَبَة:
بعد أن عدّد الله تعالى في الآيات السابقة نعمه على بني إِسرائيل، وبيّن كيف كانوا يقابلون النعم بالكفر والعناد، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال، وصل حديثهم بقصة إبراهيم أبي الأنبياء الذي يدّعي اليهود والنصارى انتماءهم إِليه ويقرون بفضله، ولو كانوا صادقين لوجب عليهم اتباع هذا النبي الكريم "محمد" صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه القويم لأنه أثر دعوة إِبراهيم الخليل حين دعا لأهل الحرم، ثم هو من ولد إسماعيل عليه السلام فكان أولى بالاتباع والتمسك بشريعته الحنيفية السمحة التي هي متمِّمة شريعة الخليل عليه السلام.
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي اذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إِبراهيم الخليل، وكلّفه بجملة من التكاليف الشرعية "أوامر ونواهٍ" فقام بهن خير قيام {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي قال له ربه إِني جاعلك قدوة للناس ومناراً يهتدي بك الخلق {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي قال إِبراهيم واجعل يا ربّ أيضاً من ذريتي {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا ينال هذا الفضل العظيم أحدٌ من الكافرين.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أي واذكر حين جعلنا الكعبة المعظمة مرجعاً للناس يقبلون عليه من كل جانب {وَأَمْنًا} أي مكان أمن يأمن من لجأ إليه، وذلك لما أودع الله في قلوب العرب من تعظيمه وإِجلاله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أي وقلنا للناس اتخذوا من المقام - وهو الحَجَر الذي كان يقوم عليه إبراهيم لبناء الكعبة - مصلّى أي صلوا عنده.
{وَعَهِدْنا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي أوصينا وأمرنا إِبراهيم وولده إسماعيل {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي أمرناهما بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان ليكون معقلاً للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه، فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: الطائفين، والمعتكفين، والمصلين ..
ثم أخبر تعالى عن دعوة الخليل إِبراهيم فقال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} أي اجعل هذا المكان - والمراد مكة المكرمة - بلداً ذا أمن يكون أهله في أمنٍ واستقرار {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك وخصَّ بدعوته المؤمنين فقط، قال تعالى جواباً له:{قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} أي قال الله وأرزق من كفر أيضاً كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقاً ثم لا أرزقهم؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعاً قليلاً وذلك مدة حياته فيها.
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} أي ثم أُلجئه في الآخرة وأسوقه إِلى عذاب النار فلا يجد عنها محيصاً {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المآل والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم. قاس الخليل الرزق على الإِمامة فنبهه تعالى على أن الرزق رحمة دنيوية شاملة للبرّ والفاجر بخلاف الإِمامة فإِنها خاصة بالخواص من المؤمنين.
ثم قال تعالى حكاية عن قصة بناء البيت العتيق {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أي واذكر يا محمد ذلك الأمر الغريب وهو رفع الرسولين العظيمين "إِبراهيم وإِسماعيل" قواعد البيت وقيامهما بوضع أساسه ورفع بنائه وهما يقولان بخضوع وإِجلال {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة قائلين يا ربنا تقبل منا أي اقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم فإِنك أنت السميع لدعائنا العليم بنياتنا.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي اجعلنا خاضعين لك منقادين لحكمك {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي تب علينا وارحمنا فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} أي ابعث في الأمة المسلمة رسولاً من أنفسهم وهذا من جملة دعواتهما المباركة فاستجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} أي يقرأ آيات القرآن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمهم القرآن العظيم والسنّة المطهرة {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من رجس الشرك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز الذي لا يُقهر ولا يُغلب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
سبب نزول الآية (130): قال ابن عُيَيْنَة: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابنَيْ أخيه: سلمة ومهاجراً، إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت فيه الآية.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي لا يرغب عن دين إِبراهيم وملته الواضحة الغراء إِلا من استخفّ نفسه وامتهنها {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإِمامة {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي من المقربين الذين لهم الدرجات العلى {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي استسلم لأمر ربك وأخلصْ نفسك له {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي استسلمت لأمر الله وخضعتُ لحكمه.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أي وصّى الخليل أبناءه باتباع ملته وكذلك يعقوب أوصى بملة إِبراهيم {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي اختار لكم دين الإِسلام ديناً وهذا حكاية لما قال إبراهيم ويعقوب لأبنائهما {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي اثبتوا على الإِسلام حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي بل أكنتم شهداء حين احتضر يعقوب وأشرف على الموت وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؟ أي أيَّ شيء تعبدونه بعدي؟ {قالوا نعبد إِلهك وإِله آبائك إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق إِلهاً واحداً} أي لا نعبد إِلا إِلهاً واحداً هو الله رب العالمين إِله آبائك وأجدادك السابقين {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي نحن له وحده مطيعون خاضعون، والغرض تحقيق البراءة من الشرك.
قال تعالى مشيراً إِلى تلك الذرية الطيبة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والإِشارة إِلى إِبراهيم وبنيه أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي لها ثواب ما كسبت ولكم ثواب ما كسبتم {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.
تنبيه: ظاهر قوله تعالى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} النهي عن الموت إِلا على هذه الحالة من الإِسلام، والمقصود الأمر بالثبات على الإِسلام إِلى حين الموت، أي فاثبتوا على الإِسلام ولا تفارقوه أبداً واستقيموا على محجته البيضاء حتى يدرككم الموت وأنتم على الإِسلام الكامل كقولك لا تصلّ إِلا وأنت خاشع.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أن ملة إبراهيم هي ملة الحنيفية السمحة، وأن من لم يؤمن بها ورغب عنها فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة، ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة من زعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيّن أن تلك الدعوى لم تكن عن دليل أو شبهة بل هي مجرد جحود وعناد، ثم عقب ذلك بأن الدين الحق هو في التمسك بالإِسلام، دين جميع الأنبياء والمرسلين.
إبطال دعوى أهل الكتاب أن الهداية باتباع اليهودية أو النصرانية
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} أي قال اليهود كونوا على ملتنا يهوداً تهتدوا وقال النصارى كونوا نصارى تهتدوا، فكلٌ من الفريقين يدعو إِلى دينه المعوج {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي قل لهم يا محمد بل نتّبع ملة الحنيفية السمحة وهي ملة إِبراهيم حال كونه مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيم وما كان إِبراهيم من المشركين بل كان مؤمناً موحّداً وفيه تعريض بأهل الكتاب وإِيذان بأنَّ ما هم عليه إِنما هو شرك وضلال.
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أي قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أنزل إِلينا من القرآن العظيم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} أي وآمنا بما أنزل إِلى إِبراهيم من الصحف والأحكام التي كان الأنبياء متعبَّدين بها وكذلك حفدة إِبراهيم وإِسحاق وهم الأسباط حيث كانت النبوة فيهم {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} أي من التوراة والإِنجيل {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدّق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه.
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} أي إِن آمن أهل الكتاب بنفس ما آمنتم به معشر المؤمنين فقد اهتدوا إِلى الحق كما اهتديتم {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي وإِن أعرضوا عن الإِيمان بما دعوتهم إِليه فاعلم أنهم إِنما يريدون عداوتك وخلافك، وليسوا من طلب الحق في شيء {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي سيكفيك يا محمد شرهم وأذاهم ويعصمك منهم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو تعالى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم من المكر والشر.
سبب نزولا لآية (138)
قال ابن عباس: إن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودي، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور، مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك، صار نصرانياً حقاً، فأنزل الله هذه الآية.
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي ما نحن عليه من الإِيمان هو دين الله الذي صبغنا به وفطرنا عليه فظهر أثره علينا كما يظهر الصبغ في الثوب، ولا أحد أحسن من الله صبغةً أي ديناً {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} أي ونحن نعبده جلّ وعلا ولا نعبد أحداً سواه.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أي أتجادلوننا في شأن الله زاعمين أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأن الأنبياء منكم دون غيركم؟ {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي ربُّ الجميع على السواء وكلُّنا عبيده {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم لا يتحمل أحد وزر غيره {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي قد أخلصنا الدين والعمل لله.
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}؟ أي أم تدّعون يا معشر أهل الكتاب أن هؤلاء الرسل وأحفادهم كانوا يهوداً أو نصارى {قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَم اللَّهُ} أي هل أنتم أعلم بديانتهم أم الله؟ وقد شهد الله لهم بملة الإسلام وبرأهم من اليهودية والنصرانية {ما كان إِبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً} فكيف تزعمون أنهم على دينكم؟.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أظلم ممَن أخفى وكتم ما اشتملت عليه آيات التوراة والإِنجيل من البشارة برسول الله، أو لا أحد أظلم ممن كتم ما أخبر الباري عنه من أن الأنبياء الكرام كانوا على الإِسلام {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها وفيه وعيد شديد.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كرّرها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إِذا كان أولئك الأنبياء على فضلهم وجلالة قدرهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، وقد تقدم تفسيرها فأغنى عن الإِعادة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ} أي سيقول ضعفاء العقول من الناس {مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يصلون إِليها وهي بيت المقدس، قبلة المرسلين من قبلهم؟ {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي قل لهم يا محمد الجهات كلها لله له المشرق والمغرب فأينما ولينا وجوهنا بأمر من الله كان القبول من الله {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يهدي عباده المؤمنين إِلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين .
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي كما هديناكم إِلى الإِسلام كذلك جعلناكم يا معشر المؤمنين أمة عدولاً خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أي لتشهدوا على الأمم يوم القيامة أن رسلهم بلّغتهم، ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} أي وما أمرناك بالتوجه إِلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إِلى الكعبة {إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي إِلا لنختبر إِيمان الناس فنعلم من يصدّق الرسول، ممن يشكّك في الدين ويرجع إِلى الكفر لضعف يقينه {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي وإِن كان هذا التحويل لشاقاً وصعباً إِلا على الذين هداهم الله .
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي ما صحَّ ولا استقام أن يضيع الله صلاتكم إِلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها، وذلك حين سألوه صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يصلي إِلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة فنزلت، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل للحكم أي أنه تعالى عظيم الرحمة بعباده لا يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها.
سبب النزول: روى البخاري عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماء} الآية [البقرة: 144]، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها}، قال الله تعالى: {قُلْ: لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية.
وفي الصحيحين عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيَمانَكُمْ}. أي صلاتكم.
سبب نزول الآية: {الذينَ آتيناهم الكتابَ}:
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سَلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سَلام: لأنا أشدُّ معرفةً برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا أبن سَلام؟ قال: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقّاً يقيناً، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سَلام.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:51
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} كثيراً ما رأينا تردّد بصرك يا محمد جهة السماء تشوقاً لتحويل القبلة {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة - قبلة أبيك إِبراهيم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي توجه في صلاتك نحو الكعبة المعظمة {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة أيضاً {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي إِن اليهود والنصارى ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حقٌ من عند الله ولكنهم يفتنون الناس بإِلقاء الشبهات {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها، وفيه وعيد وتهديد لهم.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى ما قاله السفهاء من اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إِلى الكعبة المعظمة، وأمر رسوله بأن يتوجه في صلاته نحو البيت العتيق، ذكر في هذه الآيات أن أهل الكتاب قد انتهوا في العناد والمكابرة إِلى درجة اليأس من إِسلامهم، فإِنهم ما تركوا قبلتك لشبهة عارضة تزيلها الحجة، وإنما خالفوك عناداً واستكباراً، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم من جحود وتكذيب أهل الكتاب.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} أي والله لئن جئت اليهود والنصارى بكل معجزة على صدقك في أمر القبلة ما اتبعوك يا محمد ولا صلّوا إِلى قبلتك {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} أي ولست أنت بمتبع قبلتهم بعد أن حوّلك الله عنها، وهذا لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً له عليه السلام {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي إِن النصارى لا يتبعون قبلة اليهود، كما أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، لما بينهم من العداوة والخلاف الشديد مع أن الكل من بني إِسرائيل {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ} أي ولئن فرض وقدّر أنك سايرتهم على أهوائهم، واتبعت ما يهوونه ويحبونه بعد وضوح البرهان الذي جاءك بطريق الوحي {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي تكون ممن ارتكب أفحش الظلم، والكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير وإِلا فحاشاه صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء الكفرة المجرمين، وهو من باب التهييج للثبات على الحق. .
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} أي يعرفون محمداً معرفة لا امتراء فيها كما يعرف الواحد منهم ولده معرفة يقين {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وإِن جماعة منهم - وهم رؤساؤهم وأحبارهم - ليخفون الحق ولا يعلنونه ويخفون صفة النبي مع أنه منعوت لديهم بأظهر النعوت {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف: 157] فهم يكتمون أوصافه عن علم وعرفان {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} أي ما أوحاه الله إِليك يا محمد من أمر القبلة والدين هو الحق فلا تكوننَّ من الشاكّين، والخطاب للرسول والمراد أمته.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي لكل أمة من الأمم قبلةٌ هو مولّيها وجهه أي مائل إِليها بوجهه فبادروا وسارعوا أيها المؤمنون إِلى فعل الخيرات {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قِمَمِ الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل بين المحق والمبطل {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإِن تفرقت أجسامكم وأبدانكم.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي من أيّ مكان خرجت إِليه للسفر فتوجه بوجهك في صلاتك وجهة الكعبة {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تقدم تفسيره وكرّره لبيان تساوي حكم السفر والحضر {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} هذا أمر ثالث باستقبال الكعبة المشرفة، وفائدة هذا التكرار أن القبلة كان أول ما نسخ من الأحكام الشرعية، فدعت الحاجة إِلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإِزالة الشبهة قال تعالى {لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي عرّفكم أمر القبلة لئلا يحتج عليكم اليهود فيقولوا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا فتكون لهم حجة عليكم أو كقول المشركين: يدعي محمد ملة إِبراهيم ويخالف قبلته {إِلاَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أي إِلا الظلمة المعاندين الذين لا يقبلون أيّ تعليل فلا تخافوهم وخافوني {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي أتمّ فضلي عليكم بالهداية إِلى قبلة أبيكم إِبراهيم والتوفيق لسعادة الدارين.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} الكلام متعلق بما سبق في قوله {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي} والمعنى كما أتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} أي يقرأ عليكم القرآن {وَيُزَكِّيكُمْ} أي يطهركم من الشرك وقبيح الفعال {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمكم أحكام الكتاب المجيد، والسنة النبوية المطهرة {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي يعلمكم من أمور الدنيا والدين الشيء الكثير الذي لم تكونوا تعلمونه .
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أي اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أي اشكروا نعمتي عليكم ولا تكفروها بالجحود والعصيان، روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: "تذكرني ولا تنساني، فإِذا ذكرتني فقد شكرتني، وإِذا نسيتني فقد كفرتني"
سبب نزول الآية (154):
نزلت في شهداء بدر، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، والسبب أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: {ولا تقولوا..} الآية.
ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإِيمان ليستنهض هممهم إِلى امتثال الأوامر الإِلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة فقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم بالصبر والصلاة، فبالصبر تنالون كل فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كل رذيلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي معهم بالنصر والمعونة والحفظ والتأييد.
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} أي لا تقولوا للشهداء إنهم أموات {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} أي بل هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون ولكن لا تشعرون بذلك لأنهم في حياةٍ برزخية أسمى من هذه الحياة .
{وَلَنَبْلوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} أي ولنختبركم بشيءٍ يسير من ألوان البلاء مثل الخوف والجوع، وذهاب بعض الأموال، وموت بعض الأحباب، وضياع بعض الزروع والثمار {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بشر الصابرين على المصائب والبلايا بجنات النعيم، ثم بين تعالى تعريف الصابرين بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي نزل بهم كرب أو بلاء أو مكروه {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي استرجعوا وأقروا بأنهم عبيد لله يفعل بهم ما يشاء {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أي أولئك الموصوفون بما ذكره لهم ثناء وتمجيد ورحمة من الله، وهم المهتدون إلى طريق السعادة.
سبب النزول:
سبب نزول الآية (158):
أخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنهما إنما أُنزلت، لأن الأنصار قبل أن يُسلموا كانوا يُهِلِّون لمناة الطاغية، وكان من أهلَّ لها، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوَّف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ..} الآية، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما.
سبب نزول الآية (159 وما بعدها):
نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من ذكْر النبي صلى الله عليه وسلم، فكتموه إياه، فأنزل الله هذه الآية.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} اسم لجبلين بمقربة من البيت الحرام {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبَّدنا الله بها {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} أي من قصد بيت الله للحج أو قصده للزيارة بأحد النسكين "الحج" أو "العمرة"{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما، فإِذا كان المشركون يسعون بينهما ويتمسحون بالأصنام، فاسعوا أنتم لله رب العالمين، ولا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نفلاً {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين .
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} أي يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية كقوله تعالى {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَعِنُونَ} أي أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة والمؤمنون {إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم، أصفح عما فرط منهم من السيئات .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} أي كفروا بالله واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي يلعنهم الله وملائكته وأهل الأرض جميعاً، حتى الكفار فإِنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً {خَالِدِينَ فِيهَا} أي خالدين في النار - وفي إِضمارها تفخيم لشأنها - { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ} أي إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع لا يخف عنهم طرفة عين {لا يُفتّر عنهم وهم فيه مبلسون} {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب فور مفارقة الحياة الدنيا.
سبب النزول:
عن عطاء قال: أنزلت بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقال كفار قريش بمكة كيف يسعُ النّاسَ إِلهٌ واحد؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. إِلى قوله لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وعن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقاً فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى آخر الآية.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إِلهكم المستحق للعبادة إِلهٌ واحد، لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله {لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أي لا معبود بحق إِلا هو جلّ وعلا مُولي النعم ومصدر الإِحسان {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي إِن في إِبداع السموات والأرض بما فيهما من عجائب الصنعة ودلائل القدرة {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقبهما بنظام محكم، يأتي الليل فيعقبه النهار، وينسلخ النهار فيعقبه الليل، ويطول النهار ويقصر الليل والعكس {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} أي السفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء وهي وموقرةٌ بالأثقال {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} أي بما فيه مصالح الناس من أنواع المتاجر والبضائع {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} أي وما أنزل الله من السحاب من المطر الذي به حياة البلاد والعباد {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار، بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار.
{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي نشر وفرّق في الأرض من كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، المختلفة في أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي تقليب الرياح في هبوبها جنوباً وشمالاً، حارة وباردة، وليّنة وعاصفة {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي السحاب المذلّل بقدرة الله، يسير حيث شاء الله وهو يحمل الماء الغزير ثم يصبُّه على الأرض قطرات قطرات، قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لدلائل وبراهين عظيمة دالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة لقوم لهم عقول تعي وأبصار تدرك، وتتدبر بأن هذه الأمور من صنع إِله قادر حكيم.
ثم أخبر تعالى عن سوء عاقبة المشركين الذين عبدوا غير الله فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} أي ومن الناس من تبلغ بهم الجهالة أن يتخذ من غير الله أنداداً أي رؤساء وأَصناماً {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يعظمونهم ويخضعون لهم كحب المؤمنين لله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي حب المؤمنين لله أشدُّ من حب المشركين للأنداد.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} أي لو رأى الظالمون حين يشاهدون العذاب المعدّ لهم يوم القيامة أَن القدرة كلها لله وحده {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي وأنَّ عذاب الله شديد أليم وجواب "لو" محذوف أي لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة .
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} أي تبرأ الرؤساء من الأتباع {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} أي حين عاينوا العذاب وتقطعت بينهم الروابط وزالت المودّات {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي تمنّى الأتباع لو أنّ لهم رجعة إِلى الدنيا ليتبرءوا من هؤلاء الذين أضلوهم السبيل {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} أي كما تبرأ الرؤساء من الأتباع في ذلك اليوم العصيب .. قال تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه كذلك يريهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة وحسراتٍ تتردد في صدورهم كأنهم شرر الجحيم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} أي ليس لهم سبيل إِلى الخروج من النار، بل هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي.
سبب نزول الآية (168):
قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخُزاعة وعامر بن صَعْصعة، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام، وحرموا البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:52
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا} الخطاب عام لجميع البشر أي كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل .
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهى في القبح من الرذائل {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي وإِذا قيل للمشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي والقرآن واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} أي بل نتبع ماوجدنا عليه آباءنا، قال تعالى في الردّ عليهم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} أي أيتّبعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء.
ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين في غاية الوضوح والجلاء فقال تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً} أي ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن وحججه الساطعة ومثل من يدعوهم إِلى الهدى كمثل الراعي الذي يصيح بغنمه ويزجرها فهي تسمع الصوت والنداء دون أن تفهم الكلام والمراد، أو تدرك المعنى الذي يقال لها، فهؤلاء الكفار كالدواب السارحة لا يفهمون ما تدعوهم إِليه ولا يفقهون، ويسمعون القرآن ويصمّون عنه الآذان { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ولهذا قال تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي صمُّ عن سماع الحق، بكم أي خرسٌ عن النطق به عميٌ عن رؤيته فهم لا يفقهون ما يقال لهم لأنهم أصبحوا كالدواب فهم في ضلالهم يتخبطون. وخلاصة المثل - والله أعلم - مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من سماع الصوت دون أن تفهم المعنى وهو خلاصة قول ابن عباس.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} خاطب المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بالتوجيهات الربانية والمعنى كلوا يا أيها المؤمنون من المستلذات وما طاب من الرزق الحلال الذي رزقكم الله إِياه {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي واشكروا الله على نعمه التي لا تحصى إِن كنتم تخصونه بالعبادة ولا تعبدون أحداً سواه {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} أي ما حرّم عليكم إلا الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي وما ذبح للأصنام فذكر عليه اسم غير الله كقولهم باسم اللات والعزّى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي فمن ألجأته ضرورة إِلى أكل شيء من المحرمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي فلا عقوبة عليه في الأكل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر الذنوب ويرحم العباد ومن رحمته أن أباح المحرمات وقت الضرورة.
سبب نزول الآية (174):
أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} والتي في آل عمران: {إن الذين يشترون بعهد الله} نزلتا جميعاً في يهود. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} الآية.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} أي يخفون صفة النبي عليه الصلاة والسلام المذكورة في التوراة وهم اليهود قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي صلى الله عليه وسلم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي يأخذون بدله عوضاً حقيراً من حطام الدنيا {أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَ النَّارَ} أي إِنما يأكلون ناراً تأجّج في بطونهم يوم القيامة لأن أكل ذلك المال الحرام يفضي بهم إِلى النار {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا يكلمهم كلام رِضىً كما يكلم المؤمنين بل يكلمهم كلام غضب كقوله {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِي} {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من دنس الذنوب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب مؤلم وهو عذاب جهنم .
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي أخذوا الضلالة بدل الهدى والكفر بدل الإِيمان {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أي واستبدلوا الجحيم بالجنة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي ما أشدَّ صبرهم على نار جهنم؟ وهو تعجيب للمؤمنين من جراءة أولئك الكفار على اقتراف أنواع المعاصي ثم قال تعالى مبيناً سبب النكال والعذاب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي ذلك العذاب الأليم بسبب أن الله أنزل كتابه {التوراة} ببيان الحق فكتموا وحرّفوا ما فيه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} أي اختلفوا في تأويله وتحريفه {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي في خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشدّ العذاب.
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق أو المغرب {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر {وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} أي وأن يؤمن بالملائكة والكتب والرسل {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} أي أعطى المال على محبته له ذوي قرابته فهم أولى بالمعروف {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وأعطى المال أيضاً لليتامى الذين فقدوا آباءهم والمساكين الذين لا مال لهم، وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} أي الذين يسألون المعونة بدافع الحاجة وفي تخليص الأسرى والأرقاء بالفداء {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} أي وأتى بأهم أركان الإِسلام وهما الصلاة والزكاة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} أي ومن يوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود {وَالصَّابِرِينَ} منصوب على الاختصاص أو المدح {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} أي الصابرين على الشدائد وحين القتال والذين صدقوا في إِيمانهم وأولئك هم الكاملون في التقوى، وفي الآية ثناء على الأبرار وإيحاء إِلى ما يلاقونه من اطمئنان وخيرتٍ حسان.
سبب النزول:
هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية (178): فروي عن قتادة والشعبي وجماعة من التابعين: أنه كان من أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدُ قومٍ آخرين عبداً لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حراً، اعتزازاً بأنفسهم على غيرهم. وإن قتلت لهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي.
ثم أنزله الله تعالى في سورة المائدة بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
وروي عن السُّدِّي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبي صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء - على أن يؤدي الحر ديةالحر، والعبد دِيَة العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضهم من بعض. فنزلت الآية لتأييد حكمه.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} أي فرض عليكم أن تقتصوا من الجاني فقط فإِذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإِذا قتل العبد العبد فاقتلوه به، وكذلك الأنثى إِذا قتلت الأنثى، مثلاً بمثلٍ ولا تعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإِن أخذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي فمن تُرك له من دم أخيه المقتول شيء، بأن ترك وليُّه القَوَد وأسقط القصاص راضياً بقبول الدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أي فعلى العافي اتباعٌ للقاتل بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنفٍ ولا إِرهاق، وعلى القاتل أداءٌ للدية إِلى العافي - ولي المقتول - بلا مطل ولا بخس .
{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ما شرعته لكم من العفو إِلى الدية تخفيف من ربكم عليكم ورحمة منه بكم، ففي الدية تخفيف على القاتل ونفعٌ لأولياء القتيل، وقد جمع الإِسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إِذا اسقطوا القصاص عن القاتل وذلك رحمة {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي فمن اعتدى على القاتل طالبوا به وذلك عدل، وشرع الدية إِذا القاتل بعد قبول الدية فله عذاب أليم في الآخرة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت من القصاص حياةٌ وأيُّ حياة لأنه من علم أنه إِذا قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله وبذلك تُصان الدماء وتُحفظ حياة الناس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لعلكم تنزجرون وتتقون محارم الله ومآثمه.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي فرض عليكم إِذا أشرف أحدكم على الموت وقد ترك مالاً كثيراً {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أي وجب عليه الإِيصاء للوالدين والأقربين {بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث وألا يوصي الأغنياء ويترك الفقراء، حقاً لازماً على المتقين لله وقد كان هذا واجباً قبل نزول آية المواريث ثم نسخ بآية المواريث {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي إِثم هذا التبديل على الذين بدّلوه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه وعيد شديد للمبدِّلين .
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} أي فمن علم أو ظنَّ من الموصي ميلاً عن الحق بالخطأ {أَوْ إِثْمًا} أي ميلاً عن الحق عمداً {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} أي أصلح بين الموصي والموصَى له فلا ذنب عليه بهذا التبديل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن قصد بعمله الإِصلاح.
سبب نزول الآية (184):
أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فأفطر، وأطعم لكل يوم مسكيناً.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ناداهم بلفظ الإِيمان ليحرك فيهم مشاعر الطاعة ويُذْكي فيهم جَذْوة الإِيمان {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض عليكم صيام شهر رمضان {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي كما فرض على الأمم قبلكم {لَعَلكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكونوا من المتقين لله المجتنبين لمحارمه {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي والصيام أيامه معدودات وهي أيام قلائل، فلم يفرض عليكم الدهر كله تخفيفاً ورحمةً بكم {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي من كان به مرضٌ أو كان مسافراً فأفطر فعليه قضاء عدة ما أفطر من أيام غيرها .
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أي وعلى الذين يستطيعون صيامه مع المشقة لشيخوخةٍ أو ضعفٍ إِذا أفطروا عليهم فدية بقدر طعام مسكين لكل يوم {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ثم قال تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي والصوم خير لكم من الفطر والفدية إِن كنتم تعلمون ما في الصوم من أجر وفضيلة.
ثم بيّن تعالى وقت الصيام فقال {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي والأيام المعدودات التي فرضتها عليكم أيها المؤمنون هي شهر رمضان الذي أبتدأ فيه نزول القرآن حال كونه هداية للناس لما فيه من إِرشاد وإِعجاز وآيات واضحات تفرق بين الحق والباطل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من حضر منكم الشهر فليصمه {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي ومن كان مريضاً أو مسافراً فأفطر فعليه صيام أيام أخر، وكرّر لئلا يتوهم نسخه بعموم لفظ شهود الشهر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي يريد الله بهذا الترخيص التيسير عليكم لا التعسير {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي ولتكلموا عدة شهر رمضان بقضاء ما أفطرتم {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي ولتحمدوا الله على ما أرشدكم إِليه من معالم الدين {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا الله على فضله وإِحسانه ...
سبب نزول الآية (186):
أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن معاوية بن حَيْدة عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقريب ربنا، فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فنزلت الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي..}.
سبب نزول الآية (187):
أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء مالم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: قيس بن صِرْمة صلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح مجهوداً، وكان عمر أصاب من النساء بعدما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ..} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام، كان كل إنسان يجتهد فيما يراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية.
ثم بيّن تعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين فقال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي أنا معهم أسمع دعاءهم، وأرى تضرعهم وأعلم حالهم كقوله {ونحن أقرب إِليه من حبل الوريد} {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أي أجيب دعوة من دعاني إِذا كان عن إِيمانٍ وخشوع قلب {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي إِذا كنت أنا ربكم الغني عنكم أجيب دعاءكم فاستجيبوا أنتم لدعوتي بالإِيمان بي وطاعتي ودوموا على الإِيمان لتكونوا من السعداء الراشدين .
ثم شرع تعالى في بيان تتمة أحكام الصيام بعد أن ذكر آية القرب والدعاء فقال {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي أبيح لكم أيها الصائمون غشيان النساء في ليالي الصوم {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال ابن عباس: هنَّ سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي تخونونها بمقارفة الجماع ليلة الصيام وكان هذا محرماً في صدر الإِسلام ثم نسخ.
روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان الرجال يخونون أنفسهم فأنزل الله {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} الآية {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} أي فقبل توبتكم وعفا عنكم لما فعلتموه قبل النسخ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي جامعوهن في ليالي الصوم واطلبوا بنكاحهن الولد ولا تباشروهن لقضاء الشهوة فقط {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي كلوا واشربوا إِلى طلوع الفجر {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي أمسكوا عن الطعام والشراب والنكاح إِلى غروب الشمس {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي لا تقربوهن ليلاً أو نهاراً ما دمتم معتكفين في المساجد {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} أي تلك أوامر الله وزواجره وأحكامه التي شرعها لكم فلا تخالفوها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}أي يتقون المحارم.
سبب النزول:
قال مقاتل بن حيان: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عبدان بن أَشْوَع الحضرمي، وذلك أنهما اختصما إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أرض، وكان امرؤ القيس هو المطلوب (المدعى عليه)، وعبدان هو الطالب (المدعي)، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكم عبدان في أرضه، ولم يخاصمه.
وقال سعيد بن جبير: إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي، اختصما في أرض، وأراده امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تدفعوها إِلى الحكام رشوة {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} أي ليعينوكم على أخذ طائفة من أموال الناس بالباطل {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مبطلون تأكلون الحرام.
سبب النزول:
قال ابن عباس: إن معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنَم - وكانا من الأنصار - قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ويعظم، ثم لا يزال ينقص ويدِقّ، حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية. ويروى أيضاً أن اليهود سألت عن الأهلة.
{يسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} أي يسألونك يا محمد عن الهلال لم يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يعظم ويستدير ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي فقل لهم إِنها أوقات لعباداتكم ومعالم تعرفون بها مواعيد الصوم والحج والزكاة {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها كما كنتم تفعلون في الجاهلية {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي ولكنَّ العمل الصالح الذي يقرّبكم إلى الله تعالى هو اجتناب محارم الله {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ادخلوها كعادة الناس من الأبواب {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه.
سبب النزول:
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآية. قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي: نزلت هذه الآيات في صلح الحُدَيْبِيَة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صُدَّ عن البيت هو وأصحابه، نحر الهَدْي بالحُدَيْبِيَة، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل، على أن يُخْلُوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل، تجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قريشاً.
وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية، قال قتادة فيما أخرجه الطبري: أقبل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذي القعدة، حتى إذا كانوا بالحديبية، صدَّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة، وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فَجَروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله تعالى منهم، فأنزل: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية.
وقوله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآية، قال الشعبي: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى، فنزلت هذه الآية، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله، فأصابتهم سَنَة (قحط)، فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وروى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم وغيرهم،عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فكانت التهلكة: الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.
عبدالله ناجح عضو متّألق
الإسم الحقيقي : ABDALLAH NAJIH البلد : ROYAUME DU MAROC
عدد المساهمات : 12530 التنقيط : 79398 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 16/09/2010 الجنس :
موضوع: رد: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة 2 الجمعة 22 أبريل 2011, 05:52
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي قاتلوا لإِعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي لا تبدءوا بقتالهم فإِنه تعالى لا يحب من ظلم أو اعتدى، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة {وقاتلوا المشركين كافة} وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي شرّدوهم من أوطانهم وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} أي فتنة المؤمن عن دينه أشدُّ من قتله، أو كفر الكفار أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم، فإِذا استعظموا القتال فيه فكفرهم أعظم {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} أي لا تبدءوهم بالقتال في الحرم حتى يبدءوا هم بقتالكم فيه {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي إِن بدءوكم بالقتال فلكم حينئذٍ قتالهم لأنهم انتهكوا حرمته والبادي بالشر أظلم {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإِن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفّوا عنهم فإِن الله يغفر لمن تاب وأناب .
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا شوكتهم ولا يبقى شرك على وجه الأرض ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإِن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن قتلهم فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إِلا على الظالمين، أو فإِن انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ثم بيّن تعالى أن قتال المشركين في الشهر الحرام يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي إِذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فكما هتكوا حرمة الشهر واستحلوا دماءكم فافعلوا بهم مثله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي ردوا عن أنفسكم العدوان فمن قاتلكم في الحرم أو في الشهر الحرام فقابلوه وجازوه بالمثل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي راقبوا الله في جميع أعمالكم وأفعالكم واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي أنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه القربات ولا تبخلوا في الانفاق فيصيبكم الهلاك ويتقوى عليكم الأعداء وقيل معناه: لا تتركوا الجهاد في سبيل الله وتشتغلوا بالأموال والأولاد فتهلكوا {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي أحسنوا في جميع أعمالكم حتى يحبكم الله وتكونوا من أوليائه المقربين.
سبب النزول:
سبب نزول قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}: أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزغفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك.
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}: روى البخاري عن كعب بن عُجْرَة أنه سُئل عن قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى مسلم عن كعب بن عُجْرة قال: فيَّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثاً، فقال: أيؤذيك هوامُّك؟ قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر".
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي أدوهما تأمين بأركانها وشروطها لوجه الله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي إِذا منعتم من إِتمام الحج أو العمرة بمرضٍ أو عدوٍ وأردتم التحلل فعليكم أن تذبحوا ما تيسر من بدنة أو بقرةٍ أو شاة .
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي لا تتحللوا من إِحرامكم بالحلق أو التقصير حتى يصل الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو الحرم أو مكان الإِحصار {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أي فمن كان منكم معشر المحرمين مريضاً يتضرر معه بالشعر فحلق، أو كان به أذى من رأسه كقملٍ وصداعٍ فحلق في الإِحرام، فعليه فدية وهي إِما صيام ثلاثة أيام أو يتصدق ثلاثة آصع على ستة مساكين أو يذبح ذبيحة وأقلها شاة {فَإِذَا أَمِنتُمْ} أي كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإِحصار آمنين {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أي من اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها، فعليه ما تيسّر من الهدي وهو شاة يذبحها شكراً لله تعالى.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي من لم يجد ثمن الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إِذا رجع إِلى وطنه {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أي عشرة أيام كاملة تجزئ عن الذبح، وثوابها كثوابه من غير نقصان {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي ذلك التمتع أو الهّدْي خاص بغير أهل الحرم، أما سكّان الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي خافوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه واعلموا أن عقابه شديد لمن خالف أمره.
ثم بيّن تعالى وقت الحج فقال {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج هو تلك الأشهر المعروفة بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي من ألزم نفسه الحجَّ بالإِحرام قاصد لرضاه، فعليه أن يترك الشهوات، وأن يترك المعاصي والجدال والخصام مع الرفقاء {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي وما تقدموا لأنفسكم من خير يجازيكم عليه الله خير الجزاء {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي تزودوا لآخرتكم بالتقوى فإنها خير زاد {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} أي خافون واتقوا عقابي يا ذوي العقول والأفهام.
سبب النزول:
نزول الآية (198):
روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومِجَنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتاثَّموا أن يتَجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي في موسم الحج.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: "قلت لابن عمر: إنا نَكْرِي (أي نُؤَجر الدواب للحجاج)، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يُجِبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ..} فدعاه النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم حجاج".
نزول الآية (199):
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.
نزول الآية (200):
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يُطعِم، ويحمل الْحَمَالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} الآية.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم، وقفوا عند الجمرة، وذكروا آباءهم في الجاهلية، وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية، حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القُبَّة، عظيم الْجَفْنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية، ليُلزِموا أنفسَهم ذكرَ الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية.
نزول آخر الآية (200) والآيتين (200-201):
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم: {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} ويجيء آخرون من المؤمنين، فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً..} إلى قوله: {سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
جواز التجارة للحاجِّ ، والأمر بذكر الله تعالى كثيراً ، ورفع الحرج عمّن تعجَّل بالنفر من مِنى
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي لا حرج ولا إِثم عليكم في التجارة في أثناء الحج فإِن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كانوا يتأثمون من ذلك فنزلت الآية تبيح لهم الاتجار في أشهر الحج {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} أي إِذا دفعتم من عرفات بعد الوقوف بها فاذكروا الله بالدعاء والتضرع والتكبير والتهليل عند المشعر الحرام بالمزدلفة {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، واشكروه على نعمة الهداية والإِيمان فقد كنتم قبل هدايته لكم في عداد الضالين، الجاهلين بالإِيمان وشرائع الدين .
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي ثمّ انزلوا من عرفة حيث ينزل الناس لا من المزدلفة، والخطاب لقريش حيث كانوا يترفعون على الناس أن يقفوا معهم وكانوا يقولون: نحن أهل الله وسُكّان حرمه فلا نخرج منه فيقفون في المزدلفة لأنها من الحرم ثم يفيضون منها وكانوا يسمون "الحُمْس" فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفة ثم يقف بها ثم يفيض منها {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي استغفروا الله عمّا سلف منكم من المعاصي فإِن الله عظيم المغفرة واسع الرحمة .
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} أي إِذا فرغتم من أعمال الحج وانتهيتم منها فأكثروا ذكره وبالغوا في ذلك كما كنتم تذكرون آباءكم وتعدون مفاخرهم بل أشدّ، قال المفسرون كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل بعد قضاء المناسك فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم فأمروا أن يذكروا الله وحده {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي من الناس من تكون الدنيا همّه فيقول: اللهم اجعل عطائي ومنحتي في الدنيا خاصة وما له في الآخرة من حظ ولا نصيب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} أي ومنهم من يطلب خيري الدنيا والآخرة وهو المؤمن العاقل، وقد جمعت هذه الدعوة كل خيرٍ وصرفت كل شر، فالحسنة في الدنيا تشمل الصحة والعافية، والدار الرحبة، والزوجة الحسنة، والرزق الواسع إلى غير ما هنالك والحسنة في الآخرة تشمل الأمن من الفزع الأكبر، وتيسير الحساب، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله الكريم إلخ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي نجّنا من عذاب جهنم {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي هؤلاء الذين طلبوا سعادة الدارين لهم حظ وافر مما عملوا من الخيرات والله سريع الحساب يحاسب الخلائق بقدر لمحة بصر.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} أي كبروا الله في أعقاب الصلوات وعند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي من استعجل بالنفر من منى بعد تمام يومين فنفر فلا حرج عليه {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي ومن تأخر حتى رمى في اليوم الثالث - وهو النفر الثاني فلا حرج عليه أيضاً {لِمَنِ اتَّقَى} أي ما ذكر من الأحكام لمن أراد أن يتقي الله فيأتي بالحج على الوجه الأكمل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي خافوا الله تعالى واعلموا أنكم مجموعون إِليه للحساب فيجازيكم بأعمالكم.
سبب النزول:
روى ابن جرير عن السُّدِّي في نزول الآيات (204-206): أن الأخنس بن شُرَيق الثقفي أتى النبَّي صلى الله عليه وسلم، وأظهر له الإسلام، ثم خرج، فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وحُمُر، فأحرق الزرع، وعقر (قتل) الحمر، فأنزل الله الآية.
وقال سعيد بن المسيِّب - فيما يرويه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وبن أبي حاتم -: أقبل صهيب الرومي مهاجراً إلى النبَّي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش: لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله، لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي، ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على ما لي بمكة، وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النبَّي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، ونزلت الآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ..}.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} أي ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إِعجابَك بخلابة لسانه وقوة بيانه، ولكنه منافق كذّاب {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي في هذه الحياة فقط أما الآخرة فالحاكم فيها علاّم الغيوب الذي يطّلع على القلوب والسرائر {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أي يظهر لك الإِيمان ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي شديد الخصومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين والصلاح بكلامه المعسول {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أي وإِذا انصرف عنك عاث في الأرض فساداً، وقد نزلت في الأخنس ولكنها عامة في كل منافق يقول بلسانه ما ليس في قلبه
"يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغُ الثعلب"
{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} أي يهلك الزرع وما تناسل من الإِنسان والحيوان ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل هو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إِلا بهما، فإِفسادهما تدمير للإِنسانية {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي يبغض الفساد ولا يحب المفسدين.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْه الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} أي إِذا وُعظ هذا الفاجر وذكَّر وقيل له انزع عن قولك وفعلك القبيح، حملته الأنفة وحميَّةُ الجاهلية على الفعل بالإِثم والتكبر عن قبول الحق، فأغرق في الإِفساد وأمعن في العناد {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي يكفيه أن تكون له جهنم فراشاً ومهاداً، وبئس هذا الفراش والمهاد .
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} هذا هو النوع الثاني وهم الأخيار الأبرار، فبعد أن ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أتبعه بذكر صفات المؤمنين الحميدة والمعنى ومن الناس فريق من أهل الخير والصلاح باع نفسه لله، طلباً لمرضاته ورغبةً في ثوابه لا يتحرى بعمله إلا وجه الله {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} أي عظيم الرحمة بالعباد يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات ولا يعجل العقوبة لمن عصاه.