هذه دراسة لعمل أدبي كبير نال من الشهرة الشيء الكثير لأديب تخطى عقبات الحياة ووصل إلى ذرى المجد ..
هذا الأديب هو الكاتب المصري الدكتور : طه حسين .
وهذا العمل هو " الأيــــــــــام " تلك القصة أوالسيرة الذاتية لأحداث حياة الكاتب منذ ولادته وحتى مرحلة متقدمة من حياته ...
وقد قسمها إلى ثلاثة أجزاء .. تحدث في الجزء الأول عن طفولته المبكرة ثم عن سفره إلى القاهرة والتحاقه بالأزهر .. وفي الثاني أكمل حديثه عن دراسته بالأزهر ومن ثم التحاقه بالجامعة .. وفي الجزء الأخير أتم حديثه عن الجامعة وابتعاثه إلى فرنسا وزواجه وولوجه عالم الكتابة .
امتازت القصة بأسلوبها الجميل ودقتها المتناهية في الوصف ولغتها الراقية فاحببت ان تشاركوني متعتها .. مع العلم أن كاتبها عليه مآخذ كثيرة من الناحية الشرعية ولكننا سننظر للعمل من الجانب الأدبي ولابأس أن نشير أحيانا إلى ماورد في القصة من تجاوزات لايمكن إغفالها ..
السيرة الذاتية
الأيام عمل أدبي قصصي يحكي فيه الكاتب حياة شخص منذ ولادته وحتى وفاته متناولا بيئته ونشأته وأعماله وتأثيراته وهذا ما يطلق عليه اسم ترجمة الحياة ..
وبما أن الترجمة كانت لحياة طه حسين ذاته فهي إذن ما يطلق عليها ( الترجمة الذاتية أو السيرة الذاتية ) ..
" فالسيرة الذاتية كشف عن الشخصية في أثناء عملية الصراع التي تقوم بين شعور الكاتب بذاته وموقف المجتمع منه ومدى خضوع أحد الطرفين للآخر " 1
وهذا ما كان في الأيام حيث رأينا كيف يدور الصراع بين إحساس الكاتب بذاته ومواهبه وتفوقه على أنداده بينما ينظر له المجتمع نظره إلى العاجز بسبب آفة عينيه !! وكيف كان لهذا أبلغ الأثر في نفسيته واسلوب حياته .
" ولكن إلى اي مدى يتمكن الكاتب لهذا النوع من الفنون الأدبية من تمثل الصراحة والتماس الحقائق وهو يتحدث عن نفسه ، أي أنه هو العارض والمعروض والواصف والموصوف ، والنفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها أو يحملها حب العدالة على تهوين شأنها ، وإما ان تقف موقف القاضي الموضوعي والحكم النزيه وذلك مطلب عزيز التحقيق " 2
يقول أحمد أمين : " والعين لاترى نفسها إلا بمرآة والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته " 3
ونلمس في رواية الأيام اعتزاز الكاتب بنفسه وانطلاقه في الحكم على الآخرين ووصفهم كما يحلو له أو كما يظهر له ، وهو ليس بالضرورة رأينا فيهم لو رأيناهم أو تعاملنا معهم ..
فنظرته وحكمه لم تكن متجردة أبدا وإنما كانت تابعة لإحساسه وموقفه منهم ومن تعاملهم معه ..
حاول طه حسين كثيرا أن لايمدح نفسه أو يبجلها بصورة مباشرة ولكنه وقع في هذا من حيث لم يعلم .. وما رواية الأيام كلها إلا تمجيدا لمشواره في طلب العلم وشق طريقه في دنيا لاتعترف بالعاجزين !!.. " وفهم الإنسان لنفسه أمرمشكوك فيه فربما كانت قدرته على فهم الآخرين أكبر من قدرته على فهم نفسه "( 4)
وقد اختار الكاتب القالب القصصي لسيرته وهناك من كتب سيرته في صورة رسائل أو يوميات أو مذكرات
ومن الأدباء الذين طرقوا مجال السيرة الذاتية على سبيل المثال :
عبد الرحمن بن خلدون في كتابه : التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا
أحمد فارس الشدياق في كتابه : الساق على الساق في ما هو الفارياق
عباس محمود العقاد في كتابه : أنـــــــا
عبد الرحمن شكري في كتابه : كتاب الاعترافات .. وهو قصة نفس
****************************** **************
(1)(2) (3) اعترافات أدبائنا في سيرهم الذاتية .... علي عبده بركات
(4) الأدب وفنونه .... دز عز الدين إسماعيل
ملخص الرواية
بدأ ذلك الطفل الصغير في استكشاف العالم من حوله .. لم يتجاوز الثالثة من العمر ..
كان محبا للعب والخروج خارج الدار والاستماع إلى الشاعر الذي ينشد الشعر في القرية على الرغم من عدم فهمه لما يقال .. !
وكانت أخته تقطع عليه متعته تلك فتحمله إلى الداخل لتقطر له أمه في عينيه سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا ، وهي تحسب أنها تحسن صنعا ، ثم تحمله إلى حجرة صغيرة لينام فيقضي ليله خائفا مضطربا من الأشباح والعفاريت التي كانوا يخوفون بها ألأطفال حتى يغلبه النوم فينام ..
ومع ذلك يستيقظ مبكرا ينتظر الفجر حتى يتوضأ والده ويصلي ويقرأ ورده ويشرب قهوته ويمضي إلى عمله قيقوم هو للعب !
كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه وخامس أحد عشر من أشقته .. كان يحس من أمه رحمة ورأفة ومن أبيه لينا ورفقا ومن إخوته شيئا من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له .. ثم تبين سبب هذا كله فقد أحس أن إخوته وأخواته يصفون ما لاعلم له به فعلم أنهم يرون ما لايرى ، فاستحال ذلك إلى حزن صامت عميق .
حدث ذات يوم أن كان يجلس إلى العشاء فأخذ اللقمة بيديه فأما إخوته فأغرقوا في الضحك وأما أمه فأجهشت بالبكاء وقال له أبوه بحزن : ما هكذا تؤخذ اللقمة يابني . وأما هو فلم يعلم كيف قضى ليلته وحرم على نفسه بعد هذه الحادثة طعاما كثيرا وأصبح يحب التستر بأكله دائما !
كان أحب اللعب إليه الاستماع للقصص والأحاديث في قريته فاستمع إلى قصص الغزوات والفتوح وأخبار الأنبياء والصالحين والنساء . وحفظ من جده الأوراد والأدعية كما حفظ القرآن كله في الكتّاب على رجل يسمونه ( سيدنا ) وكان ذلك قبل أن يتم التاسعة من عمره ، فدعاه أبواه شيخا .
لكن حفظه للقرآن لم يدم طويلا فقد نسيه حتى إذا أراد منه أبوه ذات يوم أن يقرأ شيئا من القرآن بحضرة صديقين له فعجز الصبي عن القراءة ووجد في اليوم التالي أن ( سيدنا ) بدأ يعيد له قراءة القرآن ثانية فحفظه في فترة وجيزة ولكنه نسيه مرة أخرى .... وهكذا !
كان له أخ في القاهرة يدرس في الأزهر وكان ينتظر كما يقال له أن يأتي أخوه ليأخذه معه فيدرس في الأزهر ولكن أخاه عاد فدفع إليه ألفية ابن مالك ليحفظه خلال العام وكتاب مجموع المتون ، وبدأ الصبي يحفظ الألفية ليصبح كأخيه تحتفل به الأسرة إذا حضر وتقيم له الولائم ..
وكلف الصبي أن يذهب إلى المحكمة الشرعية ليقرأ على القاضي ما يريد أن يحفظه من الألفية .. وكان والده فرحا وهو يسمعه كل يوم يعيد عليه ما حفظ .. ولكن الصبي لم يلبث أن مل هذا الحفظ وترك الذهاب إلى المحكمة وكان يخدع أباه فيقرأ عليه كل يوم من الأبواب القديمة التي حفظها في بداية عهده بالألفية فيصدقه ويبارك له .. وعندما عاد أخوه اكتشف الأمر فلم يغضب ولم ينذر ولم يخبر أباه وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكتاب والمحكمة وأحفظه الألفية في عشرة أيام .
كان في قرية الصبي أنماط عديدة من البشر الذين يدّعون المشيخة والعلم في الدين ويؤثرون بأسوأ الأثر على عقول الناس ( لاحظوا أن هذه وجهة نظر الكاتب والله أعلم بحقيقة الأمر ) ، وكان لذلك أثر على الصبي فقد تعلم تجويد القرآن و حفظ ألوانا من أخبار الكرامات والمعجزات وأسرار الصوفية وتعلم السحر وقرأ كتبه فأعجب بها وقلد ما كتب فيها !! فكان الصبي المسكين يتصوف ويتكلف السحر وهو واثق بأنه سيرضي الله سبحانه وتعالى .
كان للصبي أخت صغرى في الرابعة من عمرها خفيفة الروح طلقة الوجه فصيحة اللسان مرضت في عيد الأضحى والناس من حولها في شغل عنها فأهملت حتى اشتد عليها داؤها فماتت لايعرف أحد ما علتها تلك وكيف أودت بحياتها ..
ولم يكن ذلك هو الخطب الوحيد الذي ألم بالعائلة بل إن داء الكوليرا اختطف من بينهم ابنا في الثامنة عشرة .. جميل ورائع وذكي ظفر بشهادة البكالوريا وانتسب إلى مدرسة الطب .
"ستذهب إلى القاهرة مع أخيك لتطلب العلم حتى أراك من علماء الأزهر تلتف حولك حلقة واسعة من الطلاب " هكذا قال الشيخ لابنه قبل سفره إلى القاهرة .. وسافر الصبي .. فكيف عاش في القاهرة ؟؟
سكن بيتا غريبا ذا طريق غريبة : غرفة أشبه بالدهليز فيها المرافق المادية للبيت ثم غرفة أخرى فيها المرافق العقلية .. غرفة النوم والطعام والحديث والسمر والقراءة والدرس ، فيها الكتب وأدوات الشاي وبعض الطعام .
كان يشعر بالغربة لأنه لايعرف هذه الغرفة ولايعرف أثاثها كما في بيته في القرية ومع ذلك أحب المكوث لأنه يعلم أنه إنما جاء ليلقي نفسه في بحر العلم فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ..
وفي الأزهر كان يمشي سعيدا يخفف خطوه على هذه الحصر البالية التي تنفرج أحيانا عما تحتها من الرض كأنما تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئا من البركة !!!!!
وبدأ يدرس .. الحديث والنحو والفقه في عامه الأول .
ولكنه عاش مع أخيه حياة لم تكن تخلو من عذاب ، فبعد عوته من درسي الفجر والصبح كان أخوه وأصحابه يتناولون إفطارهم كل يوم فلايقدر على مجاراتهم في أكلهم أو في حديثهم ...... ثم يذهب به أخوه لدرس الظهر ثم يعود به إلى مكانه في الغرفة قبيل العصر بقليل ثم ينصرف عنه إلى أصحابه فينفقون وقتا طويلا أو قصيرا في شيء من الراحة والدعابة والتندر بالشيوخ والطلاب ... ويبقى هو وحيدا في تلك الغرفة حتى يؤذن المغرب فيذهب أخوه إلى درسه ويتركه وحده أيضا يقضي هذا الوقت من نهاره وليله لايعرف النوم ولايعرف السلوى وإنما يعرف عذاب الوحدة والخوف .
أقبل اليوم المشهود وسيذهب الصبي بعد درس الفقه إلى الامتحان في حفظ القرآن لينتسب إلى الأزهر رسميا ، وهناك .. دعاه أحد الممتحنين بقوله : " أقبل يا أعمى " ! ثم صرفه بقوله : " انصرف يا أعمى فتح الله عليك " ونجح في الامتحان لكن طريقة الممتحن في استدعائه وصرفه تركت أبلغ الأثر في نفسه .
أذن الله لوحدته أن تنتهي بوصول ابن خالته الذي كان رفيقه في القرية ليتعلم هو أيضا في الأزهر ، فكانا يلهوان معا ويقرآن معا ، ومضت الأيام وأقبلت الإجازة .. وسافر الصبي إلى قريته فأنكر على أهل قريته التوسل بالأنبياء والأولياء وكثيرا من المعتقدات التي كان الناس يؤمنون بها ولايقبلون بديلا فاشتهر في القرية !
ثم عاد إلى القاهرة واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لاجديد فيها إلا ماكان يفيده من العلم كلما أمعن في الدرس ، وكان يجادل الشيوخ كثيرا ويناقشهم في كل ما يقولونه ولا يتقبل أية كلمة ما لم يكن مقتنعا بها تماما ، ثم بدأ يميل لدرس الأدب فحفظ مع أخيه معلقة امريء القيس وطرفة وعشرة مقامات من مقامات الحريري وبعض خطب الإمام علي من كتاب نهج البلاغة وبعض مقامات الهمذاني والكثير من ديوان الحماسة ..
وبدأ يحضر درسا لقراءة المفصل للزمخشري في النحو على يد الشيخ المرصفي فأحب شيخه هذا وكلف به ولزمه منذ ذلك الوقت يحفظ كلامه ويعي رأيه ويؤثر درسه على غيره واختصه الشيخ بمودته مع اثنين من زملائه الذين توطدت علاقته بهما .
ضاقت نفوس هؤلاء الفتية بالأزهر فزادها الشيخ ضيقا ، وكانت نفوسهم شيقة إلى الحرية فحط الشيخ عنها القيود والأغلال .. وما زالوا يتحدثون بالسوء عن الأزهر وشيوخه حتى نزل بهم العقاب فمحيت اسماؤهم من الأزهر ... لكنهم أعادوهم مرة أخرى .
ومرت السنوات والفتى يذهب إلى الأزهر حزينا ويعود حزينا لشدة الملل الذي اعتراه منه .. حتى أنشئت الجامعة فأقبل عليها وانتسب إليها فوجد للحياة طعما جديدا ، وأصبح لايذهب إلى الأزهر إلا مرة في الأسبوع أو الأسبوعين ..
واتصل الفتى بالجريدة ومديرها الأستاذ لطفي السيد وبالشيخ عبد العزيز جاويش وأخذ يجرب نفسه في الكتابة فعرف بطول اللسان والنقد اللاذع ، وكان ينقد الأزهر ويغلو في العبث بالشيوخ ، ومضت الأيام وتتابعت وحان وقت امتحان الأزهر لينال درجة العالمية فاستعد وحفظ ، ولكن الشيخ المرصفي أخبره أن القوم يأتمرون به ليسقطوه ...... وبالفعل سقط قبل أن يتم الامتحان !!
أصدرت الجامعة قرارا بعدم الإذن بالدخول إلا لمن قدموا بطاقات الانتساب وذلك لكثرة أعداد الحاضرين لسماع الدروس فيها ، وأقبل الفتى ومعه خادمه فسمحوا له بالدخول ولكنهم لم يسمحوا للخادم ! فذهب بعض الطلاب إلى السكرتير العام فلم يزد على أن قال :" النظام هو النظام " ،،،،،، وقد ذكر الفتى بعد سنين قصته هذه وقصته في الأزهر وقصته حين دخل غرفة الدرس لأول مرة في جامعة مونبلييه فسمع الستاذ يقول لزميله : أيكون زميلك مكفوفا ؟؟ وذلك لنه لم يرفع قلنسوته عند دخوله للدرس .
تعلم الفتى الفرنسية ولكنه لم يتقنها .ز وفي تلك الأثناء قرأ في الصحف إعلانا من الجامعة عن بعثتين لفرنسا فكتب إلى رئيس الجامعة أحمد فؤاد يطلب أن يكون أحد المسافرين إلى فرنسا في بعثة درس التاريخ .. وبعد أخذ ورد ورفض وقبول اشترطت عليه الجامعة أن يحصل على درجة الدكتوراه أولا .
أقبل الفتى على الدرس وساعده صديق له بقراءة آثار أبي العلاء المعري حتى بدأ في إملاء الرسالة وصديقه يكتب ثم قدمها إلى الجامعة وامتحن فيها فاستحق الدرجة وسافر إلى فرنسا .. وكان أول طالب يحصل على الدكتوراه في الجامعة .
بدأ في فرنسا بتعلم اللغة اللاتينية وإتقان الفرنسية وتعلم الكتابة البارزة وأحسنها ، وفي تلك المدينة التقى بالفتاة التي أحبها ، حيث كانت تقرأ عليه شيئا من شعر راسين ، وبعد مدة ليست بالقصيرة أعلمها بأنه يحبها ، ولبثت الفتاة مدة أيضا ليست قصيرة حتى أعلمته بأنها موافقة على الاقتران به بعد تردد شديد .. فبدأ حياته من جديد بالأمل .
كانت تحدثه عن الناس وعن الطبيعة والشمس والجبال والجليد والشجر حتى رأى الدنيا بعينيها ، وقد قضيا فترة الخطوبة بالدرس فأول النهار درس اللاتينية ثم الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون ثم تاريخ اليونان والرومان ثم الأدب الفرنسي حتى ينقضي النهار ويأوي كل منهما إلى فراشه لينام حتى نال درجة الليسانس فأعد رسالة الدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ومن ثم تزوج وبعد الزواج تقدم للامتحان ونجح ونال درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الممتازة .
وبعد ايام قليلة بدأ في إعداد رسالته ليظفر بدبلوم الدراسات العليا في التاريخ وبدأ في تعلم لغة جديدة هي اللغة اليونانية .. وفي تلك الأثناء جاءت ابنته أمينة .
وبعد أن ظفر بالدبلوم عاد إلى مصر ومعه زوجته وابنته وقد اضطر أن يستدين ليستطيع السفر ويتمكن من إنشاء بيت يعيش فيه مع زوجته .
وبدأ يلقي دروسه في الجامعة وكانت زوجته تساعده حيث جسمت له تضاريس اليونان على ورقة يتلمسها حتى لايكون درسه عن تاريخ اليونان ناقصا .
واستمرت حياته على ما هي عليه وشارك بعض الشيء في السياسة التي كانت مضطربة في تلك الأيام ، فقد كان يعرف نفسه حين يشقى في سبيل الحق وينكرها إذا داجى أو صانع ، وكان شعاره الذي يبادي به من يخاصمه كما كان يبادي به من يغريه قول أبي نواس :
وما أنا بالمشغوف ضربة لازب
.......................ولا كل سلطان عليَّ أمير !
بعض الملاحظات على الرواية من الناحية الأدبية والفكرية :
تميز كاتب الرواية بدقة لغوية ملفتة وقدرة على تطويع الكلمات بحيث تبدو سهلة ميسرة ذات مستوى رفيع في الوقت نفسه
وتلك براعة لاتكون لكثير من الناس مع ملاحظة عذوبة الأسلوب وجماله
( هذا الماء المسكين الذي ترسل النار عليه حرارتها فيئن ثم يتغنى شاكيا ثم يجهش بالغليان باكيا ولكن القوم لايحفلون به ولا يطربون لغنائه ولا لبكائه ) ج 2 ص 28
(اختيرت لسفر البعثة سفينة فرنسية حقيرة فقيرة رخيصة .............. وكانت على بؤسها مرحة تحب الرقص في البحر وتحسن اللعب على أمواجه ولا تحفل بما يلقى ركابها من عقاب حبها للرقص واللعب ) ج3 ص 76
استخدم في قصته طريقة السرد المتتابع ولم يستخدم الحوار إلا في مواضع نادرة لم يكن له بد من استخدامه فيها ، وفي رايي أن الرواية كانت ستكون أجمل لو جمع بين الطريقتين .
الوصف في الرواية شديد الدقة ومطول للغاية وهو ممتع في البداية ولكنه يسبب شيئا من الملل أحيانا
كما في وصفه للطرق والشيوخ وبعض الأشياء
( ثم مضى حتى يبلغ جدران البيت الذي كان يقوم أمامه فلزمه ماضيا نحو الجنوب حتى إذا بلغ مكانا بعينه انحرف يمينا ثم مضى أمامه خطوات حتى ينتهي إلى حانوت الشيخ محمد عبد الواحد وأخيه الشاب الحاج محمود ...... ) ج2 ص35
( الشيخ طنطاوي جوهري ... كان يتكلم كثيرا ولا يقول شيئا ... وكان لاينطق بكلمة إلا مد ألفها فأسرف في المد وربما أخذه شيء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب في الضحك ... فيفيق الأستاذ من ذهوله .....) ج3 ص41
أما عند وصفه للحالات النفسية فهنا حقا تكون الدقة رائعة
والتطويل زيادة في العبور بالقاريء إلى إحساس الشخصية القصصية
لدرجة أن يشعر المرء أحيانا انه يعيش الموقف بكل تفاصيله .
ومن أكثر ما أثار الحزن في نفسي من مواقف الرواية وصفه لموت أخته الطفلة ،
فهي حقا تفتت الأكباد ، حيث مرضت وتألمت وذوت حتى ماتت دون أن يقدم لها أحد يدا من العون ! ج1 ص 118 - 134
مما أخل بالتتابع القصصي
حرص الكاتب عندما يذكر شخصا أن يكتب كل ما له وما عليه وكل الأحداث المتعلقة به باستطراد عجيب
وقد يكون في هذا ميزة عدم انقطاع الأفكار المتعلقة بالشخص ونسيانه عند العودة إليه مرة أخرى
خصوصا مع طول الرواية وكثرة الشخصيات .
ولكنه يفقد القصة التتابع الزمني
كما في حديثه عن سكان الربع الذي سكن فيه في الجزء الثاني - الأقسام تحت رقم 6، 7، 8 .
وعلى العكس تماما يتطرق أحيانا إلى ذكر قصة ثم يقول هذا ليس وقتها !!
ففي الجزء الثاني يشير إلى قصة حدثت في أثناء درس الشيخ عبد الحكم عطا ص 151 ثم يعود لسرد القصة ص 168
لاحظت أن رأي الكاتب عدم الجمع بين العلم والأدب ؟
بمعنى أنه لا يمكن أن يكون العالم أديبا أو يكون الأديب عالما ..
(ولم يكن الشيخ أستاذا فحسب ولكنه كان أديبا أيضا ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر فإذا خلا إلى أصدقائه عاش معهم عيشة الأديب فتحدث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع ....... ) ج2 ص 164
لديه قدرة عجيبة على التلاعب بالكلمات واستنباط المعاني من تغيير تركيبات الجمل وإليكم هذه الأمثلة
( الجد الهازل أو الهزل الجاد )
( لذة مؤلمة أو ألما لذيذا )
(ذهل عن نفسه أو ذهلت نفسه عنه )
( لم يخلق لمثل هذا الشعور أو أن هذا الشعور لم يخلق له )
( وأخذ النوم يسعى إليه وأخذ هو يسعى إلى النوم )
بدا أنه يفخر بسلاطة لسانه ويعجبه أنه إذا تحدث أقذع وأنه كان يتقى خوفا من مقالاته !!
ومن ذلك ما هجا به شعرا الشيخ رشيد رضا وأصحابه عندما اجتمعوا في فندق " سافوي "
( رعى الله المشايخ إذا توافو
إلى سافواي في يوم الخميس
وإذا شهدوا كؤوس الخمر صرفا
تدور بها السقاة على الجلوس
رئيس المسلمين عداك ذم
ألا لله درك من رئيس !) ج3 ص12
الرسالة الأولى التي كتبها لرئيس الجامعة لطلب البعثة إلى الخارج
ذكر فيها أن ما يمنعه من السفر سببان
( ..... فإني لم أحصل على الشهادة الثانوية كما أني مكفوف البصر ) ج3 ص 48
وطلب المعونة من الجامعة على أجرة خادم له
في الرسالة الثانية جعل المانع سببين أيضا ولكنهما ( .... لا أحمل الشهادة الثانوية لأني مكفوف البصر ..... احتياج الجامعة إذا أرسلتني أن تنفق علي الكثير .. ) ج3 ص51
وهنا التمس لنفسه العذر في عدم الحصول على الشهادة وهي علة عينيه وقد كان فيما سبق سببا بذاته ..
كما جعل السبب الثاني التكلفة المالية وتحمل هو نفقة الخادم
فحصر الأسباب التي من المفترض أن تكون ثلاثة في سببين ووجد لكل منهما مبررا أو حلا
وهذا يدل على الذكاء ويبرهن عن قدرة كبيرة على الإقناع وإبطال حجة الخصم
وقد نجح وحاز البعثة التي تمناها .
يظهر بجلاء تأثره بأبي العلاء المعري واختياره له ليكون موضوع رسالته لم يكن من فراغ
ربما يكون ذلك لاشتراكه معه في العلة نفسها
ولم يكن تأثره بالتشؤم وحده وإنما بفلسفات أبي العلاء جميعها
( يرحم الله أبا العلاء لقد ملأ نفس الفتى ضيقا بالحياة وبغضا لها وأيأسه من الخير وألقى في روعه أن الحياة كلها مشقة وجهد ) ج3 ص85
انتشرت في الرواية بعض الجمل التي تحمل مخالفات شرعية واضحة
وقد كان الأولى به أن ينأى عن مثل هذه العبارات لما له من مكانة فكرية وعلمية ... ولكن !!
( بمعونة الله وقديم فضل الجامعة ) ج3 ص13
( إن الدهر قادر على أن يؤلم الناس ويؤذيهم ) ج3 ص118
( الشيخ أخذه الضعف فانصرف مهمهما بصلوات وآيات من القرآن ) ج1 ص 132
قد أبدع وأدهش حقا في تصوير تأثير فتاته عليه تحت عنوان
" المرأة التي أبصرت بعينيها " ج3 ص13- 14 - 15
حرصه على العلم كان نموذجا يحتذى به فقد درس الفقه والنحو والحديث والمنطق
والأدب والتوحيد والتاريخ والجغرافيا والاجتماع واللغة الفرنسية واللاتينية واليونانية والانجليزية
وقدم الدكتوراه في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية والليسانس في التاريخ !!
وكل من يقرأ الرواية يشعر أن حرصه كان على العلم وليس على نيل الشهادات .
قد يكون للجهل الشديد في قريته وشيوع الخرافات والسحر وغيرها من الأمور الدالة على تأخر العقول تأثير على ما وصل إليه طه حسين
فقد كان ( سيدنا ) يحلف كاذبا أمام الصبي !!
وقد جعله هذا غير محتفٍ بالدين ورجاله حتى إنه عند حفظه للألفية كان يقول : إنها تعدل عنده خمسين مصحفا !!
نعوذ بالله من قوله
نلاحظ كثرة وصفه للرائحة والأصوات وهذا شيء متوقع بسبب عدم رؤيته فيركز على حواسه الأخرى
فيصف ما يصل أذنه من اصوات وانفه من روائح وصفا دقيقا جدا
( وأحس من شماله صوتا غريبا يبلغ سمعه ويثير في نفسه شيئا من العجب وقد ظل اياما يسمع هذا الصوت إذا عاد من الأزهر مصبحا وإذا عاد منه ممسيا يسمعه وينكره ويستحي أن يسأل عنه ثم فهم من بعض الحديث أنه قرقرة الشيشة يدخنها بعض تجار الحي ) ج2 ص3
( خرج إلى طريق مكشوفة ولكنها ضيقة قذرة تنبعث منها روائح غريبة معقدة لايكاد صاحبنا يحققها ، تنبعث هادئة بغيضة في أول النهار وحين يقبل الليل وتنبعث عنيفة حين يتقدم النهار ويشتد حر الشمس ) ج2 ص4
في نهاية الجزء الأول ص145 نراه يوجه حديثا إلى ابنته ...
حديثا ليس له علاقة بأحداث القصة التي كانت لاتزال في بداية التحاقه بالأزهر ..
وفي نهاية الجزء الثاني يوجه حديثه إلى ابنته بالطريقة نفسها ..
ولا أدري ما مناسبة ذلك إلا أنني ارجع السبب إلى أنه لم يكتب أجزاء القصة في وقت واحد وإنما في فترات متباعدة
الجزء الأول عام 1926
الجزء الثاني عام 1939
الجزء الثالث ( مذكرات طه حسين ) عام 1968
ولعلي أفسر ذلك بأنه أحب أن يهدي ابنته وابنه أحداث حياته وكأنه كان يقص القصة عليهما
:lol!: