بسم الله الرحمن الرحيم
قارىء القصر الملكي الشيخ مصطفى اسماعيل
...بلغت
شهرته وذيوع صيته ما سبب له الكثير من المتاعب فقد عين قارئا للسورة
بالجامع
الازهر قبل اعتماده بالأذاعة فكانت أول سابقة بل وآخرها في تاريخ
وزارة
الأوقاف وذلك بأمر من القصر الملكي.
وهو من مواليد قرية ميت
غزال
مركز طنطا محافظة الغربية في 17 / 6 / 1905 م .. كان أبوه فلاحا وقد
ألحقه
بكتاب القرية عندما بلغ خمس سنوات و قد استرعى انتباه شيخه و محفظه
الشيخ
عبدالرحمن النجار بسرعة حفظه للقرآن مع حلاوة التلاوة في هذه السن
المبكرة
إلا أن الطفل مصطفى إسماعيل كان كثير الهرب من الكتاب حيث يلتقي
بالطفل
ابراهيم الشال زميله بالكتاب أيضا ويهربا سويا ويهبا إلى قرية دفرة
التي
تبعد عن قرية ميت غزال بحوالي سبعة كيلومترات حتى لا يراهما أحد من
أهل
القرية إلا أن حظهما كان دائما عثرا وبخاصة أن الطفل مصطفى إسماعيل
يعرفه
كل ابناء القرية لما تتمتع به عائلته من أصالة و عراقة ولأن قرية
دفرة
كانت قريبة من قريتهما فقد كان أهل قرية ميت غزال يهبون لقضاء
حاجياتهم
وكان الناس يهبون بالطفل مصطفى إسماعيل إلى شيخه بالكتاب ويقصون
عليه
ما رأوه من لعبه مع زميله إبراهيم الشال فكان شيخهما يضربهما ضربا
مبرحا
وبخاصة الطفل مصطفى إسماعيل و يأخذه ويذهب به إلى جده الحاج إسماعيل
عميد
العائلة وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيها فيضربه هو الأخر إلى أن
تاب
عن الهروب من الكتاب مرة أخرى وبدأ يلتزم في الحفظ خشية العقاب من جده
حتى
أتم حفظ القرآن قبل أن يتجاوز الثانية عشر من عمره وبينما كان الطفل
مصطفى
إسماعيل يقرأ القرآن بالكتاب إذ إستمع إليه مصادفة أحد المشايخ
الكبار
في علوم القرآن وكان في زيارة لقريب له بالقرية فانبهر بآدائه
وعذوبه
صوته وسأل شيخه ومحفظه عنه وعن عائلته فذهب إلى جده وأخبره بأن
حفيده
سيكون له شأن عظيم إذا نال قدرا كافيا من التعليم لأحكام القرآن
ونصحه
بأن يذهب به إلى المسجد الأحمدي بمدينة طنطا ليزداد علما بأحكام
الترتيل
والتجويد والقراءات.
كان الشيخ مصطفى إسماعيل قد ذاع صيته في
محافظة
الغربية وإشتهر بعذوبة الآداء وأنه صاحب مدرسة جديدة في الأسلوب لم
يسبقه
إليها أحد وكان له صديق يكبره سنا يحب الاستماع إليه ويشجعه يسمى
القصبي
بك وفي عام 1922 م علم الشيخ مصطفى إسماعيل بوفاة القصبي بك فقرر أن
يشارك في مآتمه فوجد أن أهله قد إستدعوا الشيخ محمد رفعت لإحياء تلك
الليلة
فجلس ضيفا على دكة الشيخ رفعت والذي لم يكن يعرفه من قبل فلما انتهى
الشيخ رفعت من وصلته ترك مكانه لهذا القارىء الشاب ليقرأ فانبهر الشيخ
رفعت
به وبقراءته وأعجب بآدائه وصوته فأرسل إليه يطلب منه أن يستمر في
التلاوة
ولا يتوقف حتى يأذن له هو بذلك مما زاد من ثقة الشيخ مصطفى إسماعيل
بنفسه فظل يقرأ مدة تزيد على الساعة ونصف الساعة وسط تجاوب الحاضرين
وإعجابهم
حتى أن الناس خرجوا عن شعورهم وبدأوا يحيونه بصوت مرتفع يطلبون
منه
الزيادة والإعادة إلى أن أذن له الشيخ رفعت بختم وصلته ففعل فقبله
وهنأه
وقال له : إسمع يا بني أنا حأقولك على نصيحة إذا عملت بها فستكون
أعظم
من قرأ القرآن في مصر فأنت صاحب مدرسة جديدة ولم تقلد أحدا وحباك الله
بموهبة حلاوة الصوت والفن التلقائي الموسيقي دون أن تدرس في معهد موسيقي
وأنت
مازلت صغيرا في السن ولكن ينقصك أن تثبت حفظك بأن تعيد قراءة القرآن
على
شيخ كبير من مشايخ المسجد الأحمدي ..فأخذ الشيخ مصطفى إسماعيل على نفسه
عهدا بأن يذهب إلى المسجد الأحمدي بمدينة طنطا ليتعلم ويستزيد كما طلب منه
الشيخ رفعت فالتحق بالمعهد الأحمدي وعمره لم يتجاوز الثامنة عشرة بعد.كان
الشيخ
مصطفى إسماعيل نزيها يحب النظافة في المآكل والملبس والمكان الذي
ينام
فيه فلما إلتحق بالمعهد الأحمدي ليتعلم القراءات السبع وأحكام التلاوة
إستأجر مسكنا مع بعض أقرانه الذين يدرسون معه ولما كان صوت الشيخ مصطفى
إسماعيل
متميزا عنهم فقد حظى بشهرة واسعة دونهم حتى أن الناس كانوا يطلبونه
كثيرا لإحياء حفلاتهم وسهراتهم ويغدقون عليه بالمال الوفير فترك المسكن
الذي
كان يقيم فيه واستأجر حجرة في بنسيون الخواجايا بمدينة طنطا وترك
الدراسة
بالمعهد بعد أن تجاوز ثلثي مدة الدراسة ففتح ذلك باب الحقد عليه من
زملائه وأقرانه الذين هبوا إلى جده وأخبروه بأن الشيخ مصطفى ترك الدراسة
بالمعهد
منصرفا إلى القراءة بالمآتم والسهرات والحفلات وترك مسكنهم ليستقل
بذاته
في بنسيون الخواجايا وكانت تديره سيده أجنبيه فذهب إليه جده ووجده
كذلك
كما أخبره زملائه فضربه بعصا كانت معه معلنا غضبه وسخطه عليه إذا لم
يرجع
إلى ما كان عليه وخاصة دراسته بالمعهد وحاول الشيخ مصطفى إسماعيل أن
يثني
جده عن رأيه فقال له : هل تحب الشيخ محمد رفعت ؟ فأجابه : نعم ..فقال :
وهل تحب أن أكون مثله ؟ فرد : نعم .. فقال : دعني في طريقي الذي اخترته
لنفسي
وسوف أحقق لك هذا الأمل إن شاء الله وبينما هما يتحدثان إذ ببعض
الرجال
يدخلون عليهما الغرفة يطلبون مقابلة الشيخ مصطفى إسماعيل للإتفاق
معه
على إحياء سهرة لديهم فاشترط الشيخ مصطفى إسماعيل عليهم بأن يكون أجره
في
تلك الليلة جنيها مصريا فوافقوا ففرح جده كثيرا به وتأكد له أن لصوت
حفيده
عشاقا فعانقه وقبله فما كان من الشيخ مصطفى إسماعيل إلا أن أعطى جده
ثلاثين
جنيها وطلب منه أن يشتري له أرضا زراعية " نصف فدان " بقرية ميت
غزال
فشعر الشيخ مرسي أن حفيده أصبح رجلا يعتمد عليه - إذ أن من عادة أهل
القرى
كما يقول المهندس وحيد مصطفى إسماعيل نجل الشيخ أن من يشتر أرضا يعد
من
الرجال بحق - وبالفعل تركه جده وهو فخور به راض عنه ..قد تكون الصدفة
دور
في معرفة الناس من أهل القاهرة بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل ولكنه كان
سيفرض
نفسه لا محالة في أقرب فرصة تتاح له فصوته كان يغزو أسماع الناس في
كل
المحافظات التي كان يقرأ فيها, أما عن معرفة الناس به في القاهرة فتلك
مصادفة
بالفعل.. فقد ذهب إلى القاهرة لشراء بعض الأقمشة ليقوم بتفصيلها عند
أحد الخياطين المعروفين هناك وبينما هو بالقاهرة تذكر نصيحة الشيخ محمود
حشيش
الذي كان يتعهده بالمعهد الأحمدي بمدينة طنطا لما وجد فيه من صوت نقي
صادق
معبر بأن يذهب للقاهرة ليشترك برابطة تضامن القراء بحي سيدنا الحسين
...
وهناك ألتقى بالشيخ محمد الصيفي وأخبره برغبته في الإنضمام للرابطة
فطلب
منه الشيخ الصيفي مبلغ عشرة قروش قيمة الإشتراك فقال له الشيخ مصطفى
أنها
لا تكفي سأرسل إليكم جنيهاً مع بداية كل شهر ولما سأله الشيخ الصيفي
عن
اسمه ..أخبره ... فقال له : أنت إذن من تتحدث عنه المشايخ والقراء هنا
في
مصر ؟ فقال : لا أدري .. فطلب منه أن يقرأ عليه بعض آيات من القرآن فقرأ
في سورة الفجر فاستعذب صوته وطلب منه أن يأتي إليه في اليوم التالي ليتيح
له
فرصة التعرف على كبار القراء .. فذهب إليه وكان في ذلك اليوم ستنقل
الإذاعة
حفلاً على الهواء من مسجد الإمام الحسين رضي الله عنه وسيحي الحفل
القاريء
الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي إلا أنه تخلف فما كان من الشيخ الصيفي
إلا
أن أجلس الشيخ مصطفى علي دكة القراءة ليقرأ فرفض المسؤلون لأنه غير
معتمد
في الإذاعة فقال لهم الشيخ الصيفي: دعوه يقرا على مسؤليتي الخاصة
ولأن
الشيخ الشعشاعي وضعهم في مأزق بتخلفه عن الحضور فقد استسلموا لطلب
الشيخ
الصيفي فقرأ الشيخ مصطفى في سورة التحريم لمدة نصف ساعة بدأت من
الساعة
الثامنة حتى الثامنة والنصف وسط إستجابة الجمهور وما أن أنتهيى من
قراءته
حتى أقبل عليه الجمهور يقبله ويعانقه وبينما هو يستعد لمغادرة
المسجد
إذ طلب منه الحاضرون بأن يستمر في القراءة فظل يقرأ بعد ذلك حتى
أنتصف
الليل والناس يجلسون في خشوع وإجلال لآيات الله وكان ذلك بداية تعرف
جمهور
القاهرة على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل مع بداية عام 1943.عن طريق
الشيخ
محمد الصيفي رئيس رابطة القراء وقد بدأ هذا الأمر عندما أستمع الملك
فاروق
لصوت الشيخ مصطفى إسماعيل في الحفل الي نقلته الإذاعة من مسجد الإمام
الحسين فأعجب به وأصدر أمراً ملكياً بتكليفه ليكون قارئاً للقصر الملكي
فحاول
محمد باشا سالم السكرتير الخاص للملك معرفة أية معلومات عن الشيخ
مصطفى
من الإذاعة فأخبره بعض القراء بأنه قاريء مجهول لا يعرفون عنه سوى
إسمه
فهب إلى الشيخ محمد صيفي الذي أخبره عن عنوانه وبينما كان الشيخ يجلس
بين
أهله وأولاده بقرية ميت غزال إذ به يفاجأ بعمدة القرية ومأمور المركز
يقتحمان
عليه بيته ويسأله مأمور المركز بأسلوب إستفزازي قائلاً: أنت مصطفى
إسماعيل؟
فقال: نعم وقد ظن أنه أرتكب جرماً كبيراً دون أن يدري فسأله: ما
الأمر
فقال:عليك أن تذهب غداً إلى القصر الملكي لمقابلة مراد باشا محسن
ناظر
الخاصة الملكية بقصر عابدين فسأله الشيخ : ولماذا؟ قال: لا أدري وعليك
أن تنفذ الأوامر.. فسافر إلى القاهرة في صبيحة اليوم التالي والتقى بناظر
الخاصة
الملكية الي هنأه بتقدير الملك لصوته وموهبته وأخبره بالأمر الملكي
بتكليفه
قارئاً للقصر لإحياء ليلي رمضان بقصري رأس التين والمنتزه بمدينة
الأسكندرية.
كان
الشيخ مصطفى نزيها منذ أن عرف الدنيا وقبل أن ينال
شهرته وقد ذكرت
لحضرتك أنه بمجرد أن انتقل إلى مدينة طنطا وأصبح معه بعض
المال ترك
المسكن الذي كان يعيش فيه مع بعض زملائه من أهل القرية وإستأجر
حجرة
بمفرده في بنسيون نظيف لأنه يعشق النظافة ولذا فبعد أن نال قدرا من
الشهرة
بمدينة طنطا كان يهب إلى القاهرة ليشتري أرقى الأقمشة ويذهب بها إلى
أشهر الخياطين ليكون قارئا نظيفا وجيها لا يهمه فقط جمع المال بل يسعد
نفسه
بهذا المال كذلك ولذا فعندما إستقر به المقام في القاهرة عام 1944 م
نزل
بفندق شبرد وكان الفندق في ذلك الوقت لا يقيم فيه هذه الإقامة شبه
الدائمة
إلا الأثرياء أو الأجانب ولم يكن الشيخ مصطفى إسماعيل من الأثرياء
ولكنه
كان يتمتع بماله وكان إيجار الغرفة في الليلة الواحدة أربعة جنيهات
في
ذلك الوقت وهذا المبلغ يكفي لإعاشة فردا واحدا لمدة شهر كامل ولم يكن
للملك
فاروق أي علاقة باختياره هذا السكن ولكن إستقرار الشيخ في القاهرة
والرغبة
في أن يحيا حياة رغدة هو الدافع وراء ذلك.
الرئيس السادات كان
يحبه
كثيرا وكان يعشق صوته حتى أنه كان يقلده في أسلوب وآداء وطريقة قراءته
عندما كان بالسجن وكان الرئيس السادات يتحدث عن ذلك مع والدي وقد صرح
أخيرا
أحد رفقاء الرئيس السادات في السجن في برنامج على الناصية للسيدة
آمال
فهمي يما ذكرت لحضرتك ولن أكون مغاليا إذا قلت أن الرئيس السادات وافق
على تعيين القارىء الطبيب أحمد نعينع برئاسة الجمهورية عندما استمع إليه
عن
طريق الصدفة فوجده يقلد الشيخ مصطفى إسماعيل فأحبه السادات وعينه قارئا
لرئاسة
الجمهورية.
في بداية الستينيات كان الكاتب الصحفي أنيس منصور يعد
برنامجا للتلفزيون تقدمه المذيعة أماني ناشد وقد طلب أن يعد حلقة خاصة عن
حياة
الشيخ مصطفى إسماعيل ..ولأن الشيوعية كانت في هذه الفترة في أوج
أنتشارها
بمصر فقد طلب أنيس منصور من الشيخ مصطفى أن يكذب على الناس ويقول
لهم
أنه تربى في بيئة فقيرة وأنه كافح في حياته كفاحا مريرا حتى يثبت وجوده
وأن ما به من نعمة الآن إنما جاء بعد جوع وحرمان شديدين وعند بداية
التسجيل
سألته المذيعة عن بداية مشوار حياته ففاجأها بقولة : الحمد لله فقد
أنعم الله علي بالخير الوفير منذ نعومة أظافري وبدايه حياتي مع القرآن ولم
أنم يوما واحدا على الرصيف كما طلب مني أنيس منصور أن أقول فحياتي كلها
رغدة
والحمد لله ولم أشعر بالذل أو الهوان يوما واحدا فأغتاظ أنيس منصور من
كلام الشيخ مصطفى إسماعيل , ولكنه وللأسف لم يتحد معه في هذا الشأن طيلة
حياته
إلا أنه وبعد وفاته بسبع سنوات هاجمه في الصحف وفي جريدة الأهرام
ووصفة
بأنه كان يعيش عصر التسيد لأن زوجته وأولاده يقبلون يده إلا أنه
أعتذر
بعد ذلك في مقال آخر