عرف المغرب، منذ إخضاعه سنة 1912 لبراثن سلطات الحماية التي احتلته عسكريا وإداريا، أحداثا كبرى، شكلت منعطفات حقيقية، في مسيرته الوطنية، نحو بناء الدولة المستقلة الحرة والعصرية.ضمن هذه المنعطفات، يأتي حدث الحادي عشر من يناير 1944، الذي يعتبر يوما مشهودا، يندرج ضمن الأحداث الكبرى، التي غيرت مجرى تاريخ المغرب الحديث، وشكل واجهة لانطلاقة المعركة المصيرية
معركة العزة والكرامة، يوما رفع فيه الوطنيون مشعل الانتقال من مرحلة المطالب الإصلاحية إلى مسلسل النضال الوطني الحاسم، الذي أضحى جاهزا لمواجهة الاستغلال والتصدي لسلطات الاحتلال، حيث غدا وجودها عائقا كبيرا أمام تطوير وازدهار البلاد، ونمو قطاعاتها الحيوية ومرافقها الأساسية
بيد أن هذه المحطة العظيمة، التي كتبت بماء الذهب في سجل الكفاح الوطني، الذي خاضته شرائح الشعب، دفاعا عن مقدسات الوطن وعزته وكرامته، لم تكن معزولة عما سبقها من أحداث، وما لحقها من تطورات، وإنما كانت تتويجا لمسيرة امتزجت فيها الدموع بالدماء، في مسلسل تضحيات أفراد وجماعات الشعب المغربي المكافح.
فالحماية فرضت على المغرب سنة 1912. والوجود الأجنبي كان وضع أقدامه هنا وهناك في مستهل القرن الماضي، لكنه لم يعم كل البلاد، إلا بعد مخاض عسير وصل إلى سنة 1934 وحتى سنة 1936.
لقد خاض المغاربة الأحرار ملاحم بطولية، وانطلقت معارك ضارية في مختلف جهات البلاد في مواجهة قوات الاحتلال، لم يكن أولها ولا آخرها معارك الهري بالأطلس المتوسط سنة 1914 ومعارك أنوال بالريف سنة 1921 ومعارك بوغافر بوارزازات ومعارك جبل بادو بالرشيدية سنة 1933 الى غير ذلك من الانتفاضات الشعبية ضد الوجود الاستعماري، الذي عمل على محاولة تصفية واستئصال الانتفاضات والثورات الشعبية في كثير من المواقع المعروفة في البادية المغربية.
وطبعا بقيت هناك جيوب سرية بالشمال والجنوب تقول إن "ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة"... وظلت هذه الجيوب، برجالاتها ومكوناتها، تنتظر الفرصة المناسبة، وفي الوقت ذاته، ساندت في معظمها الحركة السياسية في الحاضرة المغربية، التي تسلمت المشعل من البادية المجاهدة، وشمرت عن ساعديها لتكوين المواطن الصالح، وتأطيره حتى يصبح مناضلا ملتزما ومجاهداً صنديداً..
وهكذا، فإن المحطة التي نقف عندها اليوم، هي محطة تقديم وثيقة الاستقلال، التي تعتبر التتويج التاريخي لتطور القناعة المشتركة، بين الملك والحركة الوطنية، بأن التحولات السياسية الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية، باتت جاهزة للانتقال إلى مرحلة أرقى في مسلسل النضال الوطني..
فإذا كانت مرحلة الثلاثينيات تتركز بالأساس على رفع شعار "الإصلاح داخل نظام الحماية"، وتأجيل مطلب الاستقلال إلى حين توفير الشروط الضرورية للتأطير والتنظيم حتى لا تُجر الحركة الوطنية برمتها إلى المواجهة المباشرة قبل الأوان.. فإن مرحلة الأربعينيات، حققت فيها الحركة الوطنية، بدعم وتشجيع ومباركة من الملك، خطوات مهمة في تجاوز قدر كبير من شتاتها وتعدد هيئاتها، وتوحيد صفوفها.
في هذا الوقت نفسه، تكفل الملك محمد الخامس بإلقاء حجرة صلبة في المياه الراكدة، كبالون لاختبار النوايا، ولوضع الرأي العام الدولي في صورة الأوضاع الحقيقية، التي يعيشها المغرب في ظل الاحتلال. وهذا ما عكسته الأخبار التي تداولتها وكالات الأنباء العالمية والإذاعات الدولية، التي كانت تغطي وقائع "مؤتمر أنفا"، والتي أوردت خبرا يقول إن "عظمة سلطان مراكش قد تحدث في "مؤتمر أنفا" إلى الرئيس روزفيلت ومستر ونستون تشرشل حديثا طويلا"، ثم يضيف الخبر مؤكدا أن "عظمة السلطان قد تكلم عن حق بلاده في حريتها واستقلالها بمجرد ما تضع الحرب أوزارها"..
في هذا المناخ العام، توالت الاتصالات بين القصر والحركة الوطنية، وتضاعفت النشاطات الحزبية والشبابية، حيث أسفرت عن تأسيس حزب الاستقلال في 10 دجنبر 1943، الذي شكل خطوة أساسية للانطلاق في ترجمة المواقف الوطنية، وخصوصا الموقف الملكي الذي جرى الإعلان عنه في "مؤتمر أنفا"، بتنسيق كامل وتفاهم شامل بينه وبين الوطنيين، للمضي قدما في إنجاز كل الترتيبات الأدبية والسياسية والتقنية، لإعداد وتوقيع وتقديم عريضة المطالبة باستقلال المغرب وحريته ووحدته يوم 11 يناير 1944..
ولقد ألح الملك، بعد أن تسلم رسميا عريضة المطالبة بالاستقلال، على أن تقدم نسخة منها، في اليوم نفسه، إلى كل من ممثل الولايات المتحدة الأميريكية والمملكة البريطانية، وإلى قنصل روسيا بالعاصمة الجزائرية.. وبقي الاتصال مستمرا بين القصر والحركة الوطنية لتنسيق وحدة العمل..
بيد أن الإقامة العامة كعادتها رفضت أي مساس بعقد الحماية، واقترحت إنجاز إصلاحات سياسية واجتماعية.. وبعد أسبوع على تقديم هذه الوثيقة، قام المقيم العام غبريال بيو الذي كان قد خلف الجنرال نوجيس، بزيارة جلالة الملك وأبلغه رسميا باسم لجنة التحرير الوطني (وكانت تقوم مقام الحكومة الفرنسية) بأن فرنسا لا توافق على أي إجراء أو نقاش يستهدف تغيير نظام الحماية، الذي يعطي الحق لفرنسا وحدها اقتراح الإصلاحات، التي تراها ضرورية للمغرب..
فكانت الإضرابات والمواجهات والاصطدامات، التي أسفرت عن القتل والتعذيب والتشريد في كل المدن والقرى، بعدما ألقت قوات الاحتلال القبض على جل المسيرين الوطنيين والقادة السياسيين دون مراعاة أبسط حقوق المتهمين ولا كرامة مهنة المدافعين، بل نفذت أحكامها بقساوة لم يسبق لها مثيل في تاريخ ما تفتخر به وتسميه الدولة الحامية بـ"العدل الفرنسي".. وللزيادة في المكر، مدت يدها إلى المقربين من الملك والمساندين له، الذين جاهروا بتأييدهم لوثيقة الاستقلال، وفي مقدمتهم وزير العدل شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي وقامت بنفيه إلى الصحراء.. كما أقالت مندوب الصدر الأعظم في التعليم السيد أحمد بركاش، وفرضت عليه الإقامة الجبرية.. وأعفت باشا الرباط الحاج عبد الرحمان بركاش ونائبه..
في هذه الأجواء القاتمة والحيرة العارمة، بدأ التفكير في كل المناسبات عن أساليب جديدة من الكفاح لمواجهة الظلم والظالمين، وأخذت النفوس تتأهب لتقبل وسائل أكثر فعالية وأنجع حلا، وأصبح أغلب المناضلين يتساءلون سرا وعلانية: ما هو الحل وما العمل؟ هل حان الوقت للرد ولمواجهة القمع الاستعماري المتوحش؟ هل آن الأوان للانتقام من القهر والعدوان الذي مس أقدس رمز للبلاد؟ والمبادرة بعمل في العمق يضمن للبلاد كرامتها، وللحركة الوطنية شرعيتها، وللمؤسسة الملكية مكانتها؟..
وفي هذا الجو الواعي بحتمية المواجهة، وخطورة المعركة، برزت على الساحة النضالية في شهر أبريل 1951 أعمال فدائية، جعلت ثلة من مناضلي القاعدة الوطنية ينتقلون إلى مواجهة الاستعمار باللغة التي يفهمها ويستقوي بها، فكان بهذا ظهور بعض عمليات المقاومة المسلحة..
وفي 15 ماي من السنة نفسها، انبثقت شعلة من صفوف هذا الشعب الوفي الأمين الذي تعمد الجنرال جوان إهانته في شخص رمز سيادته.. انطلقت شرارة طريق الجهاد على يد الفدائي الشهيد أحمد الحنصالي من تادلة، هذه المنطقة الجبلية المناضلة التي تكالب عليها الجيش الفرنسي قمعا ونهبا وتنكيلا وتشريدا.. كان لانتفاضة المناضل أحمد الحنصالي وما سببته من انتفاضات الأطلس المتوسط والمجابهات التي عمت البلاد منذ تولي الجنرال جوان على رأس الإقامة العامة أثر كبير على الرأي العام الفرنسي، وصفعة قاضية للجنرال الذي تمادى في غيه وخطته، لكنه فشل في المؤامرة التي دبرها.. مما جعل تغييره واجبا، فحل محله ضابط آخر هو الجنرال غيوم، الذي جاء ليواصل ما بدأه سلفه جوان، وليكمل الخطة وينفذ المؤامرة..
يقول محمد الخامس: لقد كان الذين تولوا تنفيذ هذا العمل، يجهلون ويتجاهلون ذلك الرباط الروحي الذي يشد الأمة المغربية إلى عاهلها ويجعل منهما كلا لا يتجزأ.. ولعلهم لم يحسبوا أنه هو الذي سيجعل تلك الأمة بجميع هيئاتها وطبقاتها تنتفض انتفاضتها الرائعة التي تحدث عنها العالم أجمع بكل إعجاب وثناء، مقيمة بذلك الدليل القاطع على قوة إيمانها وصلابة إرادتها واستصغارها للباطل مهما عظمت قوته واشتدت شوكته...
ثم يسترسل في توضيحاته وقناعاته: "استطاعت الأمة المغربية الأبية، وفي مقدمتها حركة المقاومة الوطنية وجيش التحرير الباسل، أن تسجل صفحة ذهبية تضيفها إلى سلسلة صفحاتنا التاريخية المفعمة بآيات البطولة والكفاح، وأن تخلدها قبسا للأجيال تستمد منه كل معاني الشرف والإباء والتضحية والوفاء"....
ويمكن القول، إن الموقف المغربي الذي أفضى إلى تحقيق المراد بوضع حد لعقود الاستغلال والاستعباد، كان يستمد قوته من التلاحم الوثيق بين الملك والشعب، سواء في إطار الحركة الوطنية التي كانت تمارس نضالها الوطني على الساحة السياسية، أو في إطار الحركة التحريرية ممثلة في المقاومة المسلحة من جهة، ومن جهة ثانية في جيش التحرير الذي انطلقت انتفاضته البطولية في أكتوبر 1955، فكانت الشرارة التي آذنت باندحار جحافل الاستعمار، والتعجيل بالانتصار، بعد أن امتدت توغلاته إلى الأطلس الكبير والصغير حتى أسفرت عن تأسيس جيش تحرير الجنوب، إلى آخر المسلسل...
لقد تحمل الشعب المغربي المحنة بكثير من الصبر والشجاعة، وكانت الحركة الوطنية والحركة التحريرية تمارسان نضالهما وجهادهما بروح حماسية ظلت تتغذى وتنتعش وتتقوى بفضل الصمود الملكي الذي كانت تنتشر أخباره كالنار في الهشيم، فتملأ النفوس ومشاعر كل مغربي ومغربية بالاطمئنان والأمل والاعتزاز.. لقد شكل ذلك الصمود الحافل والتضامن الشامل، المنارة التي تضيء البلاد وتخرجها من ليل المستعمر البهيم، وجعل المغاربة يرفعون رؤوسهم شامخين، وهم يعلمون علم اليقين، أن ملكهم بجانبهم يتحدى كل يوم الضغط الإرهابي الذي يمارس عليه بالتهديد أو بالابتزاز، دون أن يستسلم أو يلين.
وانطلق أبناء هذا الوطن البررة المخلصين، يتدافعون ويتسابقون للتضحية والفداء، مما جعل الكاتب الفرنسي المعروف فرانسوا مورياك يكتب معلقا على العملية البطولية للشهيد علال بن عبد الله: "إن الذي يهم أن نعرفه وندركه، هو ما كان يمثله سيدي محمد بن يوسف في أعين شعبه وما بقي يمثله: لقد كان الرئيس الديني من جهة، والمجسد الحي من جهة ثانية لآمال الشباب المتعلم وآمال البروليتاريا في مدن المغرب، ولم يكن في أي يوم من الأيام أقوى مما هو عليه اليوم"....
هكذا كان الشعب المغربي المجاهد، وهكذا كان بطل التحرير محمد الخامس.. وفي تلاقي هذه الكينونة، انبثقت ثورة الملك والشعب.. التي استطاعت أن تدحر الجبروت الاستعماري، وتفرض العودة المظفرة لبطل التحرير يوم 16 نوفمبر 1955 حاملا معه بشرى أفول عهد الحجر والاستغلال وبزوغ فجر الحرية والاستقلال..