بداية لابد من كلمة صريحة عن الحاضر، قبل العودة إلى ماضي فلسطين القديم ملخصها: أننا على قناعة بأن مدينة القدس، ناهيك عن فلسطين، لا تحتل أي حيز في قلوب معظم الحكام العرب والمسلمين وعقولهم. فقد تخلوا عنها على نحو نهائي. التطورات في المنطقة منذ سقوطها للاستعمارين البريطاني والفرنسي تثبت ذلك على نحو لا يقبل الشك. قادة العرب والمسلمين، أداروا ظهورهم لفلسطين وللقدس ولا يكترثون بهما، حتى لفظيًّا.
الآن، لقد شكل احتلال فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى منطلقًا جديدًا للإمبرياليات الأوروبية كي تقوم بتزوير تاريخ القدس وفلسطين القديم لصالح خطاب خلاصي (إنجيلي) يعتمد الأساطير والخرافات، وإن حاولوا صوغه بمقولات ومصطلحات شبه علمية.
لكن المشكلة الكبرى تكمن في حقيقة أن الخطاب العربي والإسلامي عن تاريخ المدينة القديم لا يزال أسير مفردات ذلك الخطاب الخلاصي (الصهيوني) ومصطلحاته، بدلاً من أن يعتمد على مرجعية تاريخية متوافرة في الكتب والدوريات المتخصصة، وثمة علماء عرب وغير عرب عديدون قديرون يمكنهم المشاركة في النقاش من منطلق علمي رزين.
فمن المفردات والمصطلحات الإنجيلية الصهيونية التي يحفل بها الخطاب العربي والإسلامي، على سبيل المثال: "هيكل سليمان"، "الهيكل الثاني"، "يبوس"، إضافة إلى تسمية المواقع الفلسطينية بأسماء توراتية أطلقها عليها علماء الآثار البريطانيون ومن بعدهم أثريو كيان العدو.
ويبقى المصطلح "اليهود" هو المصطلح (الخلاصي) الأكثر استعمالاً، بينما يجب تمييز مختلف الطوائف "اليهودية" من بعضها، ولا ننسى هنا بالطبع ضرورة تمييز "بني إسرائيل" من "يهود"، وهو تمييز واضح في القرآن الكريم الذي يجب أن يشكل مرجعية الخطاب العربي والإسلامي عن المادة.
إذا ما عدنا إلى المراجع التاريخية اليونانية واللاتينية عن فلسطين في القرون العشرة التي سبقت الفتح العربي الإسلامي، فإننا سنعثر فيها على معلومات مهمة للغاية تنقض "بدهيات" الخطاب الخلاصي "الإنجيلي-الصهيوني" الذي يتحدث عن سبي اليهود وما إلى ذلك من قصص التوراة. وبالمناسبة، فإن التوراة لا تتحدث أبدًا عن "سبي اليهود" وإنما عن سبي سكان مملكة يهوذا، والفرق بينهما، لو تعلمون، كبير.
فعلى سبيل المثال، أقدم مرجع تاريخي متوافر عن "بلاد الشام" هو كتاب المؤرخ الإغريقي هِرُدُتْ "مكتبة التاريخ" المخصص على نحو خاص للحروب الإغريقية الفارسية. ولكن "أبو التاريخ" هذا كتب عن أمور كثيرة أخرى رآها أو سمع عنها خلال ترحاله في القرن الخامس قبل الميلاد من بلاد الإغريق إلى مصر، ومنها إلى بابل.
فعلى سبيل المثال هِرُدُتْ الذي عاش وكتب في القرن الخامس قبل التأريخ المسيحي، لم يسمع عن "أورشليم" أو يهوذا، بل على العكس من ذلك فقد تحدث بصريح الكلمة عن "سوريو فلسطين"، وأوحى بأن فلسطين –هكذا حرفيًّا- تمتد من دمشق إلى صحراء سيناء، بينما يحدد الخطاب الخلاصي حدودها ضمن "قطاع غزة" الحالي تقريبًا.
هِرُدُتْ لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى "إسرائيل" أو "يهوذا" أو "السامرة" أو "السبي" أو "أورشليم" أو "الهيكل". ولو كان سمع بذلك لكتب عن الموضوع حتى بكلمات مقتضبة، ذلك أنه تحدث عن مواقع وأقوام بعيدة، ومنها جنوبي جزيرة العرب ومنتجاتها الطبيعية، التي كما نعرف تبعد عن طريق مسيرته آلاف الأكيال.
نحن لسنا في صدد الحديث عن جغرافية "الحدث التوراتي" وإنما تأكيد أمور بدهية وجب أن يعرفها القارئ غير المتخصص. أليس من الأمور المذهلة حقًّا أن يتحدث "أبو التاريخ" عن جغرافية فلسطين بهذه الكلمات، وأن يتجاهل الخطاب الخلاصي، الإنجيلي الصهيوني، هذه الحقيقة. أليس من المذهل حقًّا أن أبا التاريخ لم يسمع بالسبي ولا بأورشليم ولا بيهوذا.. !!، وهي أحداث من المفترض أنها وقعت في مدة قصيرة قُبَيل عهده. فلو كانت قائمة وقتها، حتى في الذاكرة العامة، لكتب عنها. هذه حقائق أساس لأنها تمدنا بمعلومة مهمة عن تاريخ المنطقة وأقوامها.
لكن هِرُدُتْ لم يكن الوحيد الذي كتب عن المنطقة في تلك المرحلة، إغريقيًّا كان أو "لاتينيًّا"، وإن كان الأقدم. كل من كتب عن الإقليم في تلك المرحلة استخدموا المصطلح نفسه، أي: فلسطين. أرسطو وباليمو الإليومي وكاسيُس ديو العضو في مجلس شيوخ بالإمبراطورية الرومانية الذي رفض صراحة اسم "يهوذا" الرسمي، ويوليوس أفريقانوس وبطليموس وفيلو السكندري، جميعهم أطلقوا على الإقليم اسم فلسطين.
والأمر ذاته فعله آباء الكنيسة ومنهم أسقف مدينة قيسارية يوزبيُس وأُرِغِنِس على سبيل المثال لا الحصر، مناقضين بذلك الوصف التوراتي لحدود "فلسطيا" التي من اسمها اشتق الاسم المعرب "فلسطين".
مسألة أخرى جديرة بالالتفات إليها هنا، وإن على نحو سريع وهي ما يسمى "الهيكل". أولاً، قصة بناء هذا المعبد تردنا من كتب التاريخ والجغرافية الإغريقية واللاتينية التي تقول إن الوالي المحلي الذي عينه الرومان الذين احتلوا فلسطين في القرن الأول قبل التأريخ المسيحي حاكمًا على "ولاية" -وكان اسمه "هِرودس"، وهذه صيغة مؤغرقة للاسم الآرامي "حرد"، وكان عربيًّا من الأنباط وكان متزوجًا من ابنة أحد ملوكهم- بنى معبدًا، وهو المسمى "هيكلاً"، في مدينة القدس لإرضاء كهنة البلاد المسيطرين على مختلف الطوائف "الموحِّدة"، ومنها طوائف الصدوقيين والفريسيين والكتبة والسيكاريين وجماعة الفلسفة الرابعة والمندائيين.. إلخ المذكورين في أناجيل "العهد الجديد".
في الوقت نفسه بنى حرد العربي قصرًا لنفسه وقلعة أعلى من ذلك "الهيكل" وتشرف عليه. ومن الأمور المعروفة أن الحكام، قديمًا وحاضرًا، يقيمون أفخم المباني "الدينية" تقربًا من العامة المؤمنة فطريًّا وللتغطية على فسادهم وجورهم وظلمهم.. إلخ.
وعندما تمردت بعض الطوائف في مدينة القدس قام الرومان بهدم معبد حرد، الذي يطلق عليه الخطاب الخلاصي اسم "الهيكل الثاني" تمامًا، وصكوا عملة بالمناسبة تظهر على أحد وجهيها ثيرانًا تحرث الأرض التي أقيم عليها.
إن استشارة المراجع اليونانية والرومانية ذات العلاقة، إضافة إلى المجلات الأثرية المتخصصة توضح أنه من غير الصحيح إطلاقًا الحديث عن "الهيكل" –الأصح: المعبد. السبب أنه وجد ما لا يقل عن ستة "هياكل" في مختلف أنحاء المشرق العربي، من جزيرة الفيلة في صعيد مصر إلى بلدة الدامور الواقعة حاليًّا ضمن أراضي الدولة اللبنانية.
وكما أنه من غير العلمي الحديث عن "الهيكل" فإنه من غير العلمي أيضًا الحديث عن اليهود. فـ"اليهودية"، التي هي ديانة انبثقت في القرن الثاني من التأريخ المسيحي الغربي من "اليَهْوِيَّة". فقد عرف العديد من الطوائف "اليهودية"، نسبة إلى قبيلة إقليم "يهوذا"، التوراتيين، المختلفة والمتناحرة ومنها القرائيون على سبيل المثال.
إضافة إلى ذلك، فإن العرب اليهود، أو اليهود العرب، لم يعترفوا بالتلمود الذي هو نتاج غيتوات أوروبة الشرقية والغربية.
نقول إن الديانة "اليهودية" تأسست على يد مجموعة من الكهنة الفريسيين الذين بادروا إبان حصار الرومان لمدينة القدس إلى الاتصال بهم وعقدوا معهم صفقة أداروا بموجبها ظهورهم لـ"أبناء ملتهم" المزعومين وخرجوا منها إلى مدينة يبنة الساحلية قرب اللد، حيث بدؤوا بتأسيس المدارس الدينية وتدوين تعاليمهم في سفر يعرف باسم "التلمود".
فاليهودية ديانة بدأت في التبلور في القرن الثاني للميلاد أسسها فرع من ديانة توحيدية أو ربما أحادية (أي: تؤمن بإله واحد ولكنها لا تنفي وجود آلهة أخرى) أطلق عليها أهل الاختصاص اسم "اليَهْوِيَّة" نسبة إلى الإله "يَهْوَه" الذي عرفه سكان بلاد الشام منذ الألف الثالثة من التقويم المسيحي.
و"اليهود" الغربيون القاطنون الآن في فلسطين المحتلة هم نتاج الفكر والحركة الصهيونية. قبل ولادة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن هناك "يهود" كما يظهرون الآن. فلغة "يهود" أوروبة، أي الأشكناز، كانت اليِديش، أساسها اللغة الألمانية، مع خليط من لغات أخرى منها اللاتينية وبعض المفردات "العبرية".
أما لغة "اليهود" الشرقيين-العرب، أي "المزراحيم" فكانت العربية. الحاخامات الأشكناز حظروا تداول "العبرية" لأنها "لغة مقدسة"، لغة إلههم يهوه. فقط الرجال سمح لهم باستعمالها في الصلوات فقط، أما نساء "اليهود" فكان محظورا عليهن استعمالها حتى في الصلوات.
وما قلناه سابقًا عن مختلف التزويرات يسري على القدس، تاريخًا وحاضرًا. فهذه المدينة هي التعبير المكثف عن فلسطين، وفلسطين هي المدينة. تاريخ الإقليم والمدينة سارا جنبًا إلى جنب، وتزوير الخطاب الإسرائيلي الصهيوني، والخطاب الخلاصي (الكنسي) الغربي تاريخ فلسطين يؤدي بالضرورة إلى تزوير تاريخ مدينة القدس.
وما التنقيبات المحمومة التي يقوم بها الإسرائيليون أسفل مدينة القدس القديمة إلا محاولة لتزوير التاريخ بهدف مصادرة الحاضر. الهدف هو محاولة إضفاء شرعية "علمية" على تاريخ وهمي وخيالي لم يعثر على أي دعم أثري له بعد نحو قرنين من التنقيبات المستمرة.
هذا الموضوع معقد إلى درجة ما ولذا نؤثر تجنب الخوض في تفاصيل إضافية قد تربك غير المطلع. لكن ما كتبناه من حقائق مفيد من ناحية توضيح أن الكتابة في تاريخ فلسطين القديم علم قائم بذاته يتطلب معارف علمية واسعة وفي مقدمتها معرفة اللغات القديمة ومنها الآرامية والأكادية واليونانية واللاتينية والمصرية القديمة والعربية الجنوبية من سبئية ومعينية وحميرية.. إلخ، وكذلك اعتماد التنقيبات الأثرية مرجعًا وحيدًا.
المشكلة التي تواجه الخطاب العربي السائد عن الموضوع تكمن في افتقاده إلى الحد الأدنى من هذه الشروط والمقومات، لذا نراه هزيلاً وبائسًا يعتمد الخطاب "التوراتي" والخلاصي مرجعًا، مع بعض التذاكي غير الموفق، خصوصًا عندما يجزم بأن الكنعانيين عرب واليبوسيين (المفترض أنهم سكنوا القدس القديمة قبل بني إسرائيل) عرب.. إلخ، مع أنه لم يعثر في بلاد الشام على أثر واحد يشير إلى "يبوس" التوراتية هذه، ولكن ثمة أكثر من يبوس خارج فلسطين، في سوريا مثلاً، وهي مركز الحدود السورية اللبنانية بمحاذاة بلدة المصنع اللبنانية، واسمها "جديدة يبوس" لتمييزها من جديدة أخرى، ليست يبوسية!.
لذلك فإن الخدمة الكبرى التي يمكن تقديمها لمدينة القدس ولفلسطين عمومًا، تاريخًا وحاضرًا هي الامتناع عن الخوض في موضوع خطير كهذا من دون امتلاك الأدوات العلمية الأساس التي أشرنا إليها آنفًا.
فليس من باب التحامل على الموضوع أطلق أهل الاختصاص على المادة مصطلح عش الأفاعي/عش العقارب. والمقصود أن ارتكاب أي خطأ سيؤدي إلى لسعة قاتلة، وكم من علماء ومدعين وأشباه علماء لسعتهم العقارب وأنهت حياتهم العلمية.
وهنا نأمل أن تقوم قناة الجزيرة أو أي جهة أخرى متخصصة بإعطاء موضوع تاريخ القدس وفلسطين القديم ما يستحقه من اهتمام، على طريق تأسيس خطاب علمي عربي رصين عن المادة والابتعاد عن مصطلحات ولغة وخطاب عفا عليها الزمن. ولا حول ولا قوة إلا بالله.