||~ بيئة المدينة ~||
المدينة من وجهة النظر الجغرافية، تعني مساحة من الأرض، تتميز بخصائص جيومورفولوجية، وهيدرولوجية، ومناخية، وبشرية، وحيوية، كما تضم منشآت ومرافق صنعية مختلفة، كالأبنية والشوارع وتمديدات الماء والكهرباء والاتصالات وغيرها من عناصر البنية التحتية الموجودة في المدينة، التي قام الإنسان ببنائها أو صنعها أو إيجادها على هذا النحو أو ذاك.
والمدينة هي مهد الحضارة المدنية (Civilisation)، ومهد الإبداع الفكري والتقني، وللمدن كما للبشر مصائرها وأقدارها وتاريخها، فهي تبلغ في زمن أوج ازدهارها، وفي آخر منتهى تخلفها وتراجع تطورها، وربما تختفي من الوجود.
وتؤدي التغيرات الإيكولوجية دوراً مهماً في ذلك، ومن هذا المنطلق من المفيد جداً مشاركة علماء البيئة غيرهم من علماء الاختصاصات الأخرى في دراسة تاريخ المدن والتعرف على مصائرها عبر الزمن، والتوقع عما يمكن أن تتعرض له في المستقبل، والسبل الكفيلة بتلافي التغيرات السلبية وحماية المدينة منها( ).
ومن وجهة النظر البيئية فإن المدينة يمكن اعتبارها نظاماً بيئياً مصطنعاً، وربما يكون غير طبيعي أو معارضاً للطبيعة بشكل عام. إن الوسط البيئي للمدينة عبارة عن نظام معقد، متحرك للعمليات البشرية والتأثيرات المفتعلة، التي يتعرض لها الوسط الطبيعي في مساحة محددة تتعرض لتأثيرات دائمة تؤدي إلى تغير شكل الأرض، وتغير الوضع الهيدرولوجي، والمناخي، والنباتي، والحيواني، ويبلغ التلوث فيه أعلى معدلاته.
إن بيئة المدينة هي جزء من الأنظمة البيئية البشرية، وفي بيئة المدينة يكون التدخل البشري كثيفاً ومركزاً، ويؤثر في عمليات سريان الطاقة، ودورة المواد، وعدم التوازن بين المدخلات والمخرجات في عناصر بيئة المدينة التي يؤثر فيها الإنسان، من خلال استهلاك الطاقة، أو إلقاء النفايات الصلبة والسائلة، أو تحويل الأراضي الزراعية أو الغابات إلى مبان إسمنتية وشوارع إسفلتية وغير ذلك. وهذا يرتبط بسلوك الإنسان داخل المدينة، وقد يؤدي إلى خلل في التوازن البيئي، وانتشار الكثير من الأمراض المعدية والعضوية والنفسية وغيرها.
وللمدينة تعريفات ووظائف متنوعة، وتختلف من مدينة لأخرى، ومنها الوظائف الإدارية، والسياسية، والدينية، والعسكرية، والصناعية، والتجارية، وهذه الوظائف تحدد إلى درجة كبيرة النظام، أو الأنظمة البيئية في المدينة، وعلاقاتها البيئية مع الجوار القريب أو البعيد، والتأثيرات المتبادلة السلبية والإيجابية.
- مدينة دمشق باعتبارها نموذجاً لبيئة المدينة:
يمكن ذكر بعض المعلومات عن مدينة دمشق، بوصفها نموذجاً لبيئة المدينة، فمدينة دمشق، مدينة عتيقة عريقة في التاريخ، ويقدر أن تاريخ الإنسان في مدينة دمشق وضواحيها يعود إلى نحو مليون سنة خلت، وقد استمر وجود الإنسان في هذه المدينة وفي الأراضي الخصبة المحيطة بها (الغوطة) على مر الزمن منذ عصور ما قبل التاريخ، خاصة منذ العصر الحجري الحديث في الألف التاسع قبل الميلاد، مروراً بالعصور التاريخية المتتابعة حيث عرف الإنسان حرف الجمع، والصيد، والزراعة، وتربية الحيوان، والاستقرار، وقد كانت دمشق حاضرة من حواضر العالم القديم، وعلى اتصال وتأثير متبادل مع الحضارات التي عرفها العالم، فقد كانت دمشق عبر الزمن مدينة جميلة، ذات خيرات وفيرة، وموارد متنوعة، وظروف بشرية وطبيعية ساعدت على إيجاد علاقة وطيدة بين الإنسان وبيئته، وأسهمت في تحقيق التوازن البيئي واستمراره خلال مدّة طويلة من الزمن.
ولكن دمشق المعاصرة، كغيرها من المدن الكبرى في العالم والعالم النامي بشكل خاص، أصبحت تعاني من مشكلات بيئية غير عادية، وهذه المشكلات البيئية تعود لأسباب طبيعية لا دخل للإنسان بها، وأخرى بشرية مصطنعة من قبل الإنسان، وهذه الأخيرة تعود لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، ومن الأسباب الموضوعية كون المدينة عتيقة، وأنها عانت من مختلف أنواع الهجرة إليها، وهذه الأسباب يمكن تفهمها وربما تبريرها. أما الأسباب الذاتية فأهمها قصور نظر المخططين، والمشتغلين بتطور وتطوير هذه المدينة عبر مدة ليست قصيرة، وهذه الأسباب تستدعي التوقف عندها، والعمل على تلافيها، وأخذ العبرة منها عند تخطيط الأحياء أو المدن الجديدة، على مستوى الوطن بشكل عام.