في بداية الألفية تدنت معدلات الفائدة الأساسية في اليابان إلى نحو الصفر المئوي ولكنها لم تفلح في دفع النمو الاقتصادي. وبدأ تراجع الأسعار أو كسادها يهدد بحدوث كساد اقتصادي، وسجلت مؤشرات الأسعار معدلات سلبية. وإحساساً بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، أدرك مصرف اليابان المركزي أن عليه تبني خطوات وأدوات غير عادية للحد من مخاطر سيادة تراجع الأسعار لفترة طويلة من الزمن. وتبنت اليابان سياسات التيسير الكمي في آذار (مارس) من عام 2001، حيث تم بموجب هذه السياسات استهداف الحسابات الجارية للمصارف التجارية لدى المصرف المركزي بدلاً من معدلات الخصم الأساسية.
واعتمدت سياسات التيسير الكمي للمصرف المركزي الياباني على ثلاث ركائز أساسية. وتتمثل الركيزة الأولى في استهداف أحجام احتياطات المصارف التجارية لدى المصرف المركزي، أما الركيزة الثانية فهي التزام المصرف المركزي بتوفير سيولة كافية حتى ارتفاع الرقم القياسي الأساسي لتكاليف المعيشة أو التضخم الأساسي لعدة أشهر متتالية والحد من مخاطر تراجع الأسعار. والركيزة الثالثة هي شراء سندات الحكومة اليابانية طويلة الأجل لتغطية احتياجات السيولة بطريقة سلسة ومتناغمة.
ومنذ بداية سياسات التيسير الكمي أدرك مصرف اليابان المركزي أن المصارف التجارية ليس لديها الرغبة لرفع حساباتها الجارية لديه فوق المستويات الإلزامية. وكان على المصرف المركزي توفير موارد ودوافع إضافية للمصارف التجارية لكي ترفع حساباتها الجارية لديه. وكانت هذه الخطوة التي ابتدعها المصرف المركزي الياباني غير مسبوقة ولم يقم بها أي مصرف مركزي من قبل، ولهذا فإن تحقيق هذا الهدف مثّل تحدياً قوياً للمصرف المركزي الياباني.
وقد واجه مصرف اليابان المركزي صعوبات قوية في تحقيق أهدافه، كما كان مدركاً أن المودعين لن يرفعوا حساباتهم الجارية فوق المستويات الإلزامية لأنهم لا يتقاضون فوائد عليها، ولهذا كان لا بد من استخدام عمليات السوق المفتوحة لرفع هذه الودائع. وساعد انحدار معدلات الفائدة قصيرة الأجل في خفض تكاليف الفرصة البديلة للاحتفاظ بإيداعات إضافية للمصارف التجارية في المصرف المركزي. ويعتقد أن المصارف التجارية رفعت من حساباتها الجارية في المصرف المركزي وذلك لمواجهة متطلبات السيولة المستقبلة، ولخفض التعرض لمخاطر تقلبات الفائدة، ولضمان الأرباح المحققة من شراء السندات أو خفض الخسائر إلى أدنى مستوى معين. ولجأت المصارف التجارية والمؤسسات المالية إلى ذلك عن طريق بيع السندات الحكومية طويلة الأجل واحتفظت بالودائع الإضافية لدى المصرف المركزي.
هذا، وقد رفع مصرف اليابان المركزي عدد المتعاملين في عمليات السوق المفتوحة إلى نحو 150 مصرفا ومؤسسة مالية محلية وأجنبية وذلك لضمان وجود عدد كاف من المتعاملين، ولزيادة مستويات الحساسية، وتقليل الاضطراب، ولإدخال عناصر متعددة في عمليات السوق المفتوحة، ولزيادة الشفافية. وقد أدى تراجع معدلات الفائدة قصيرة الأجل إلى خفض الاهتمام بالسندات قصيرة الأجل وارتفعت الطلبات على السندات طويلة الأجل.
ونجح مصرف اليابان المركزي منذ بداية الأمر في رفع احتياطات المصارف التجارية لديه إلى نحو خمسة تريليونات ين، وهو ما كان أعلى من متطلبات الاحتياطي الإلزامية لدى المصرف المركزي الياباني بنحو تريليون ين. وأدى الرفع الأولي لاحتياطات المصارف التجارية إلى تراجع تكاليف الاقتراض قصيرة الأجل بين المصارف إلى نحو الصفر المئوي. وواصل المصرف المركزي رفع استهدافه أحجام احتياطات المصارف التجارية حتى وصلت بعد عدة سنوات إلى نحو 35 تريليون ين ياباني، بينما كان المطلوب إلزامياً ستة تريليونات ين عند نهاية المدة. وانخفضت معدلات الفائدة على سندات الخزينة قصيرة الأجل إلى نحو الصفر المئوي في بداية تطبيق سياسات التيسير الكمي، وبعد فترة انخفضت معدلات الفائدة على السندات متوسطة الأجل ثم انخفض العائد على السندات طويلة الأجل بنحو 50 نقطة أساس.
وحاول المصرف المركزي عدم الاعتماد بصورة كبيرة على إبقاء كميات كبيرة من السندات الحكومية طويلة الأجل في ميزانيته العمومية خوفاً من أن يؤدي الاحتفاظ بكميات كبيرة من هذه السندات إلى تعطيل قدرته على التدخل في عمليات السوق قصيرة الأجل. وتخوف المصرف المركزي الياباني أيضاً بأن تعطي عملياته لشراء السندات طويلة الأجل إشارة خاطئة إلى الأسواق بأن المصرف المركزي يحاول دعم عمليات اقتراض الحكومة لأغراض الإنفاق العام، وكان هذا مهماً لتجنب اعتقاد الأسواق أن الحكومة سترفع الإنفاق بلا ضوابط مما قد يتسبب بتضخم مفرط لا يمكن السيطرة عليه. ولهذا فرض المصرف المركزي حدوداً قصوى على السندات طويلة الأجل التي يستطيع الاحتفاظ بها، حيث لا تتجاوز حجم النقود المصدرة.
وقد نجحت عمليات شراء السندات لأن المصارف التجارية اعتبرت أن عمليات السوق المفتوحة وبناء الاحتياطات تمثل فرصاً تجارية تقوم المصارف فيها ببناء حساباتها الجارية لمواجهة الطلب المستقبلي على السيولة وكذلك الحصول على ربح من عمليات بيع السندات. وكناتج من عمليات بيع السندات تقوم المصارف التجارية برفع حساباتها الجارية لدى المصرف المركزي لأنه يشترط فتح حساب لدى المصرف المركزي للدخول في عمليات السوق المفتوحة.
إن سياسات التيسير الكمي التي ابتدعها مصرف اليابان المركزي كانت مجازفة كبيرة في وقتها وكان هناك تخوف من أن تؤدي إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد الياباني، ولكن لم تظهر نتائج سلبية واضحة من تلك السياسات على الاقتصاد الياباني، وإن كان هناك جدل كبير بشأن فاعليتها في تجنب تراجع الأسعار ودفع النمو الاقتصادي. وقد ارتفعت معدلات النمو، كما تلاشت المخاوف بشأن تراجع الأسعار عند قرب نهاية استخدام سياسات التيسير الكمي، ولكنها عادت بعد التوقف عن استخدامها. وسيستمر الجدل حول آثار التجربة اليابانية المتعلقة بالتعامل مع انفجار فقاعة الأصول، ولكنها أعطت صناع القرارات المالية والنقدية حول العالم دروساً عملية في عمليات التصدي للأزمات المالية الحادة، كما أسهمت وبقوة في تبني القرارات الحاسمة لمواجهة الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية في عام 2008