[center]
قصص الخيال العلميالحديث عن قصص الخيال العلمي ليس هيِّناً كما يبدو أوّل وهلة. ذلك لأن أوهاماً عدّة تكتنف تعريفه وتحديد المراد منه وبيان طبيعته ووظيفته واتجاهاته ومستويات الخطاب فيه. وقد أنعمتُ النظر في هذه الأوهام، فرأيتها تنطلق من غموض دلالة المصطلح، ومن عدم تحديد طبيعة هذا اللون القصصي ووظيفته. ومن ثَمَّ آثرتُ تقديم آرائي من خلال الحديث عن هذين الأمرين، مؤمناً في الوقت نفسه بأن حركة نقد هذا اللون القصصي ستجانب الصواب إذا لم تستند إلى تحديد معرفي صارم للأمرين نفسيهما.
أوّلاً: دلالة المصطلح:
أعتقد بأن مفهوم(قصص الخيال العلمي) غامض جداً في الأدب العربي على الرغم من أن الدلالة العامة لهذا المصطلح واضحة جداً. فإذا بدأنا بالمصطلح (science fiction) الذي ابتدعه هوغو جونزبتش عام 1926 في مجلة(القصص المذهلة)(1)، لاحظنا تبايناً في ترجمته إلى اللغة العربية. وربّما كانت العبارات التالية أبرز ترجماته السائدة: القصص العلمية- القصص العلمي التصوُّري- الرواية المستقبلية- قصص الخيال العلمي- رواية الخيال العلمي- أدب الخيال العلمي. وقد اخترتُ من هذه الترجمات واحدة هي(قصص الخيال العلمي) لأسباب ستتضح في أثناء الدراسة. وليس هناك خارج التباين في ترجمة المصطلح شيء غير صوغ دلالته. وقبل أن أقدِّم الصوغ الذي أقترحه أودّ الإشارة إلى أن دلالة هذا المصطلح واضحة لدى المعنيين بهذا اللون الأدبي في الغالب الأعم، ولعل تحديده القابل يزيده وضوحاً لديهم.
قدَّم مجدي وهبة التحديد التالي لمصطلح قصص الخيال العلمي بعد أن ترجمه بالقصص العلمي التصوُّري ووضع إلى جانب هذه الترجمة ترجمة ثانية هي الرواية المستقبلية(2): (ذلك الفرع من الأدب الروائي الذي يعالج بطريقة خيالية استجابة الإنسان لكل تقدم في العلوم والتكنولوجيا. ويعتبر هذا النوع ضرباً من قصص المغامرات، إلا أن أحداثه تدور عادة في المستقبل البعيد أو على كواكب غير كوكب الأرض، وفيه تجسيد لتأملات الإنسان في احتمالات وجود حياة أخرى في الأجرام السماوية، كما يصوِّر ما يمكن أن يُتوقع من أساليب حياة على وجه كوكبنا هذا بعد تقدُّم بالغ في مستوى العلوم والتكنولوجيا.. ولهذا النوع من الأدب القدرة على أن يكون قناعاً للهجاء السياسي من ناحية، وللتأمل في أسرار الحياة والإلهيات من ناحية أخرى). هذا التحديد لدلالة مصطلح(قصص الخيال العلمي) أكثر التحديدات جودة في رأيي، لأن له نصيباً من الدقّة والصواب. غير أنه يقصر المصطلح على الرواية، وهذا غير دقيق إذا أنعمنا النظر في ترجمة لفظه(fiction) التي تعني القصة كما تعني الرواية والأدب القصصي والخيال، مما يُبعد من دائرة التحديد قصص الخيال العلمي الخاصة بالأطفال وبالكبار، إضافة إلى أن ترجمة fiction بالرواية دون تخصيص يضفي على المصطلح شيئاً من العمومية، لأن القارئ يتساءل عمّا إذا كانت الرواية للكبار أو للفتيان؟. ولا يُشتْرَط في قصص الخيال العلمي أن تدور في المستقبل البعيد كما ذكر وهبة، بل يمكن لها أن تدور في الحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد. وليس شرطاً أن تدور على كواكب غير كوكب الأرض، بل يمكن لها أن تدور على الأرض نفسها. كما أن قدرتها ليست مقصورة على أن تكون قناعاً للهجاء السياسي وللتأمُّل في أسرار الحياة والإلهيات فحسب، بل تملك قدرة أخرى هي التوظيف لأغراض سياسية. ومن أمثلة هذا التوظيف في الغرب رواية(لو خسرت إسرائيل الحرب) لرتشاردز تشسنوف وادوارد كلاين وروبرت لتل. وقد صدرت هذه الرواية عام 1969، واستخدمت حرب عام 1967 خلفية لها، منطلقةً من فرضيّة محدَّدة هي أن العرب هم الذين انتصروا في الحرب(3). وهي تهدف من خلال تصويرها النهب والاغتصاب إلى تشويه صورة العربي وتأييد وجهة نظر الصهاينة. وقد وصف المؤلِّفون روايتهم بأنها من(القصص العلمية السياسية) دون أن يقدِّموا برهاناً على صحَّة فرضيّتهم.
ومهما يكن الأمر فإنني أعتقد بأن مصطلح(قصص الخيال العلمي) يحتاج إلى تعريف لا ينقصه الوضوح والتحديد والشمولية. ومن ثَمَّ أقترح التعريف التالي: (قصص الخيال العلمي تعني القصص والروايات المكتوبة للأطفال أو الفتيان أو الكبار.وهي تتنبَّأ بأحداث أو مواقف أو مجتمعات علمية محتملة في الحاضر أو المستقبل، في الأرض براً وبحراً وجوّاً، وفي الفضاء الخارجي، انطلاقاً من حقائق أو فرضيّات علمية معروفة في الحاضر).
وعلى الرغم من أن هذا التعريف المقترح واضح وشامل، فإنه غير كاف في رأيي لتحديد المراد من(قصص الخيال ا لعلمي). إذ إنه يضم ألفاظاً تحتاج إلى فضل بيان، كلفظة القصص، ولفظة الخيال، ولفظة العلمي، ولفظة التنبُّؤ، ولفظة الاحتمال. ما المراد من هذه الألفاظ؟ لنبدأ بلفظة(الخيال) فهي أكثر هذه الألفاظ غموضاً.
1- الخيال:
الخيال لفظة متداولة في الحياة اليومية، يستعملها الناس في الإخبار عن إنسان ما، فيقولون: فلان خياله واسع، وهم يقصدون بذلك أحد معنيين: الأول إيجابي يفيد بأن هذا الإنسان يتصوَّر أموراً غير مألوفة، والثاني سلبي يفيد بأن هذا الإنسان بعيد عن الواقع(4). والتمييز بين المعنيين يتم بواسطة سياق الحديث عادة. ولهما معاً أصل في اللغة العربية، إذ إن الخيال لغةً هو الظن والتوهُّم والتصوُّر(5). ولا يمكن الركون لما تقدِّمه الحياة اليومية من معنى للخيال، ولكنني أستمدّ من المعنيين المستعملين للفظة الخيال شيئين مهمّين باقيين، هما: الارتفاع فوق الواقع، والتصوُّر. أما الارتفاع فوق الواقع فسمة من سمات الخيال، لأن نقل الواقع كما هو لا يّعَدّ خيالاً ولا يدخل حقله. وأما التصوُّر فهو إنشاء الصورة أو تكوينها، وهذه سمة أخرى من سمات الخيال، إذ لا خيال دون صورة أو إنشاء أو تركيب.
الخيال أيضاً لفظة متداولة في الأدب شعره ونثره. وقد قيل إنه ليس هناك أدب دون خيال، لأن الخيال لصيق بالأدب، ويكاد يكون لازمة من لوازمه؟. ففي الشعر هناك الخيال الشعري أو الخيال الذي يصنع الصور الشعرية، أي الذي ينهض بمهمة التعبير عن المعاني تعبيراً جديداً مبتكراً غير مألوف للسامع رغبة في التأثير فيه.
وينبع هذا التأثير من العلاقات التي يقيمها الشاعر البليغ بين الأشياء، ومن ثَمَّ دخل الخيال الشعري ساحة البلاغة فقيل في(أنشبت المنية أظفارها) تخييل أو استعارة تخييلية، وقُسم الجامع بين الجملتين في الفصل والوصل إلى عقلي ووهمي وخيالي، وأُطلق اللفظ في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد(6).
ويهمني من هذا الخيال الشعري طبيعة عمله. يقول محمد الخضر حسين: (تتداعى المعاني بوسيلة التذكُّر، ثم المخيّلة تنتخب منها ما يناسب الغرض. وهذا العمل، أعني الانتخاب، يسميه علماء النفس تخييلاً تحضيرياً، لأنه العمل الذي تتمكن به المخيّلة من استحضار العناصر المناسبة للمرام. وبعد أن تنتخب المخيّلة ما يليق بالغرض من العناصر تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويُسمَّى هذا التصرُّف تخييلاً إبداعياً أو اختراعياً)(7). وهذا يعني بالنسبة إليَّ أن الخيال الشعري هو الذي يُؤلِّف الصور من خلال تذكُّر العناصر والانتخاب منها ثم تأليفها في تركيب مجازي جديد، سواء أكان اسمه استعارة أم تشبيهاً أم غير ذلك(8). وكنتُ قرَّرتُ أن التركيب سمة من سمات الخيال كما يدل استعمال اللفظة في الحياة اليومية، وها أنا ألاحظ السمة نفسها في الخيال الشعري، مما يجعلني موقناً بأن مهمة الخيال الرئيسة هي تقديم تركيب جديد. وإذا كان هذا التركيب مقصوراً على عبارة مجازية في الشعر، فهو يمتدّ في النثر القصصي إلى تركيب الحوادث والمجتمعات. ويشير حديث محمد الخضر حسين إلى أن الخيال مرتبط بالذاكرة التي تستدعي العناصر التي سبق إدراكها وفهمها. وهذا يعني أن هناك علاقة بين الخيال والذاكرة والإدراك.
ولتوضيح هذه العلاقة وترسيخها لابدَّ لي من اللجوء إلى مفهوم الخيال في الفلسفة عموماً وعلم النفس خصوصاً قبل أن أحدّده في النثر القصصي.
يصنف الفلاسفة الخيال بين القوى النفسية، ويعدونه نشاطاً نفسياً، أو قوّة تتصرف في صور المعلومات بالترتيب تارةً والتفصيل أخرى. وقد استمدّ المعنيّون بالمصطلحات الأدبية تعريف الخيال من الفلاسفة وعلماء النفس، فقالوا: (إن الخيال مَلَكَة من ملكات العقل، بها تُمَثَّل أشياء غائبة كأنها ماثلة حقاً لشعورنا ومشاعرنا)(9). كما قالوا إنه(الملكة المولِّدة للتصوّرات الحسيّة للأشياء المادية الغائبة عن النظر. وهي على نوعين: إما أن تستعيد الصور التي شاهدها صاحبها من قبل وتُسمَّى عندئذ المخيَّلة المتذكّرة أو المستعيدة، أو تعتمد صوراً سابقة فتولِّد منها صوراً جديدة وتسمّى عندئذ المخيَّلة الخلاَّقة)(10). وقالوا أخيراً إنه(القدرة التي يستطيع العقل بها أن يشكِّل صوراً للأشياء، أو الأشخاص، أو مشاهد الوجود)(11). وهذه التعريفات متَّفقة، كما هو واضح، على أن الخيال قوّة من قوى العقل، وعلى أن عمله هو تشكيل الصور. وقد استندت المعجمات اللغوية الحديثة إلى المعنى الذي قدّمته الفلسفة، فعرَّفت الخيال بأنه(إحدى قوى العقل التي يُتَخيَّل بها الأشياء)(12).
وعلى الرغم من أهميّة الفلسفة في لفت الانتباه إلى أن الخيال إحدى العمليات العقلية أو المعرفية، فإنها لم تحدّده تحديداً صارماً. ولعل إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء كانوا أكثر دقّة في رسائلهم من الفلاسفة. فقد عقدوا فصلاً لبيان القوّة المتخيِّلة، وضَّحوا فيه ثلاثة أشياء مهمة(13):أ- إن تباين الناس في العلوم والمعارف والآراء والمذاهب عائد إلى تفاوتهم في هذه القوّة المتخيِّلة لاختلاف تركيب أدمغتهم. يقولون في ذلك: (اعلم أن الناس في هذه القوّة متفاوتو الدرجات تفاوتاً بعيداً جداً. والدليل عليه أنك تجد كثيراً من الصبيان يكون أسرع تصوّراً لما يسمعون، وأجود تخيُّلاً لما يصف لهم كثير من المشايخ والبالغين. وذلك أن كثيراً من العلماء والعقلاء والمرتاضين في العلوم والآداب تعجز نفوسهم عن تصور أشياء كثيرة قد قامت الحجة والبراهين على صحتها. ثم علم ان العامة في تفاوت درجات الناس في هذه القوة ليست من اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتها أو فسادها وسوء مزاجها)(14). ولا يقرّر إخوان الصفاء في هذا النص أن الخيال قوّة يملكها الناس كلهم فحسب، بل يقرّرون أن الخيال درجات وليس درجة واحدة، يتفاوت نصيب الناس منها لاختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتهم أو فسادها أو سوئها. وسأشير في أثناء توضيح لفظة القصص إلى ثلاث درجات لهذا الخيال، ولكنني هنا معنيّ بالقول إن النص السابق يقدّم لنا حقيقة معرفية مهمة هي أن خيال الأطفال أكثر نشاطاً وجودة من خيال الكبار، أيْ أنهم بتعبيرنا الحديث قادرون على بناء عوالم متخيَّلة أكثر من قدرة الكبار على بنائها. ونجد في علم نفس الطفل مصداقيّة هذا الأمر، إذ أن هناك تصنيفاً للطفولة بحسب الخيال، هو:
- مرحلة الواقعية والخيال المحدود بالبيئة(3 - 5 سنوات):
(خيال الطفل في هذه المرحلة حاد ولكنه محدود بإطار البيئة التي يحيا فيها. كما يكون إيهامياً، فالطفل يتصور غطاء القِدْر مقود سيارة يلف به ذات اليمين وذات الشمال)(15).
- مرحلة الخيال المنطلق(6 - 8) سنوات):
خيال الطفل في هذه المرحلة إبداعي أو تركيبي موجَّه إلى هدف عملي. (ويتميّز الطفل في هذه المرحلة بسرعة نمو تخيُّله، وبشدة تطلُّعه إلى الآفاق البعيدة. لذا يتبلور ولعه بالقصص الخيالية التي تخرج في مضامينها عن محيطه وعالمه)(16).
- مرحلة البطولة(8- 12 سنة): خيال الطفل في هذه المرحلة أقرب إلى الواقع، بعيد عن التخيُّل الجامح، قريب من الحقائق(17).ب- يؤمن إخوان الصفاء بأن الخيال مرتبط بالإدراك الحسي. يقولون في ذلك:
((ومن خاصة هذه القوّة أنها تعجز عن تخيُّل شيء لم تؤد إليه حاسة من الحواس، لأن التخيُّل أبداً في تصوُّره للأشياء تَبَعٌ للإدراك الحسيّ، والعقل في استنباطها تَبَعُ الدليل النفسي)(18). وقد جعل إخوان الصفاء مكان القوّة المتخيِّلة مقدَّم الدماغ، والقوة الحافظة مؤخَّر الدماغ، والقوّة المفكِّرة وسط الدماغ. ثم ربطوا بين هذه القوى العقلية استناداً إلى أن القوّة المفكِّرة هي التي تضبط عمل القوّتين الأخريين. وهذا صحيح دقيق أقرّه علم النفس الحديث، لأن العمليات المعرفية كالإدراك والتذكُّر والتخيُّل والتصوُّر مرتبطة بالتفكير، (وكثيراً ما تنتهي هذه العمليات إلى تفكير، لذا فهي تشكّل خلفية للتفكير، وليس من الممكن القيام بالتفكير دون بعض أو جميع هذه العمليات. وبسبب التلازم بين هذه العمليات يخلط البعض بينها، فيقال إننا نفكر عند محاولة تذكُّر تاريخ موقعة أو استعادة صورة صديق في الذهن أو إنشاء صورة جديدة، مع العلم أننا في الحالة الأولى نتذكر، وفي الحالة الثانية نتصوّر، وفي الحالة الثالثة نتخيّل)(19) وقد ميَّزت المعجمات بين المخيِّلة المستعيدة والخلاّقة على أساس ارتباط الأولى بالذاكرة، وانطلاق الثانية حرة من غير ارتباط، مما يرسخ لدينا إمكانية ارتباط الخيال بقوّة عقلية معرفية أخرى، وإمكانية انطلاقه حراً دون الارتباط بشيء.ج- يؤمن إخوان الصفاء بأن الحرية عماد الخيال، وأنه بوساطة هذه الحرية يتجوَّل دون قيد من زمان أو مكان. يقولون في ذلك:(إنها من أعجب القوى الدَّراكة، وإن العلماء تائهون في بحر هذه القوّة وعجائب متخيّلاتها. وذلك أن الإنسان يمكنه بهذه القوة، في ساعة واحدة، أن يجول في المشرق والمغرب، والبر والبحر، والسهل والجبل، وفضاء الأفلاك وسعة السموات، وينظر إلى خارج العالم، ويتخيّل هناك فضاء بلا نهاية، وربما يتخيل من الزمان الماضي وبدء كون العالم، ويتخيل فناء العالم، ويرفع من الوجود أصلاً، وما شاكل هذه الأشياء مما له حقيقة ومما لاحقيقة له)(20). ويضيف إخوان الصفاء إلى ذلك مثالاً ذا دلالة هو: (أن الإنسان يمكنه أن يتخيّل بهذه القوّة جملاً على رأس نخلة، أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائراً له أربع قوائم، أو فرساً له جناحان، أو حماراً له رأس إنسان)(21). ويمكن القول إن الحرية ليست سمة لازبة للخيال وحده، بل هي سمة للمناخ الخارجي الذي يتحرك الخيال فيه، سواء أكان المناخ اجتماعياً أم سياسياً. ذلك لأن القمع يؤثّر في الخيال فيجعل أجنحته مهيضة، ويتركه عاجزاً عن رسم الحوادث والمجتمعات، في حين تحرّضه الحرية على الانطلاق وارتياد الآفاق. وميزة إخوان الصفاء هنا أنهم لم يُقيِّدوا الخيال بما له حقيقة في الواقع، بل أطلقوه ليُعبِّر عما له حقيقة وعما لا حقيقة له.
كما أنهم لم يقيِّدوه بالفضاء، بل أطلقوه في الأرض أيضاً، ولم يقيّدوه بالمستقبل، بل جعلوه حرّاً في الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
ومهما يكن الأمر فإن تلك السياحة في دلالات الخيال تسمح لي باقتراح التعريف الآتي للفظة الخيال: (الخيال قوّة معرفية تركيبية جديدة، يملكها الناس كلهم على تفاوت بينهم في درجاتها تبعاً لاختلاف تركيب أدمغتهم. هذه القوّة العقلية مرتبطة بالقوى العقلية الأخرى كالإدراك والتّذكُّر، ولكن ارتباطها بها ليس حتميّاً، إذ يمكنها الاستقلال بنفسها وارتياد عوالم وحوادث لم يؤد إليها التّذكُّر، ولم يدركها الإنسان من قبل. والحرية عماد هذه القوّة وركنها المكين، وبوساطتها يحلِّق الخيال في الزمان والمكان، دون أن يكون مقصوراً على زمان محدَّد ومكان معيَّن. والارتفاع فوق الواقع سمة رئيسة في الخيال، لأن نقل الواقع كما هو لا يُعَدُّ خيالاً بل يُعَدُّ استعادة. ولكن ذلك لا يعني أن الخيال منفصل عن الواقع، بل يعني لا خيال إذ لم تُصَنْع من العناصر المستمدَّة من الواقع صورة جديدة ليس لها شبيه في هذا الواقع، ولكن الإنسان يفهمها ويصدّقها ويتفاعل معها ويتأثَّر بها. ومن ثَمَّ هناك إمكانية لتربية هذه القوّة الفطرية بغية تنميتها ودفعها إلى إنشاء الصور والحوادث والمجتمعات الجديدة).
2- القصص:
تُرجمتْ لفظة fiction ترجمات عدّة حين قُرنتْ بلفظة science. والترجمات التالية أكثرها سيادة: قصص الخيال العلمي- القصص العلمية- القصص العلمي التصوّري- الرواية المستقبلية- رواية الخيال العلمي- أدب الخيال العلمي.
وأعتقد بأن ترجمة مصطلح science fiction بقصة الخيال العلمي أكثر دقّة، على أن نفهم لفظة القصة بالمعنى الواسع، أيْ النثر القصصي الذي يضم القصة القصيرة والطويلة والرواية. ذلك لأن لفظة story تعني أيضاً القصة بالمعنى الواسع(22)، غير أن هناك لفظتين تفيدان التخصيص، هما short story أيْ القصة القصيرة، و novel أيْ الرواية. وسواء أكنا نستعمل لفظة fiction أم لفظة story فإننا أمام معنى واحد هو المعنى الواسع للقصة، أيْ النثر القصصي، وأما توافر الخيال. إذ ليست هناك قصة لا خيال فيها ما دامت تنتقي من الواقع عناصر تعيد تركيبها في بناء جديد. غير أن المعنى الواحد للفظتين لا يعني إمكانية استعمال إحداهما بدلاً من الأخرى. فحين نقول science story فنحن نقصد القصة العلمية، أي القصة التي تتناول حدثاً علمياً ثبتت صحته لتصوغه في قالب قصصي مستخدمة الخيال في عملها. وحين نقول Science Fiction فنحن نقصد قصة الخيال العلمي، أي القصة التي تستند إلى فرضيّات علمية لم تثبت صحتها لتنتقل منها إلى حوادث ومجتمعات علمية جديدة، استناداً إلى أن هذه الحوادث والمجتمعات محتملة الوقوع.
وهذا كله يعني أن لفظة fiction حين تُقرن بلفظة science تصبح مصطلحاً ليست له ترجمة دقيقة غير(قصة الخيال العلمي). ومن ثَمَّ لا صواب، في رأيي، لترجمة هذا المصطلح بالقصة العلمية أو القصص العلمي التصوّري، لأن هذين المصطلحين ينطلقان من حقائق علمية، ويحاولان تقريبها من الأفهام بصوغها في قالب قصصي. ولا حاجة إلى استعمال مصطلح(الرواية المستقبلية) لأن قصص الخيال العلمي تلتفت إلى الحاضر كما تلتفت إلى المستقبل. أما مصطلح(رواية الخيال العلمي) فصحيح في حدود تخصيص الدلالة، شأنه في ذلك شأن قصة الخيال العلمي القصيرة أو الطويلة. فإذا أُطلق المصطلح دون قيد أُريد به القصة القصيرة والطويلة والرواية. أما(أدب الخيال العلمي) فمصطلح شامل لأنه يعني الشعر والمسرح والقصة والرواية، في حين يدل مصطلح science Fiction على جنس أدبي واحد هو النثر القصصي.
والقصة، أية قصة، لابدَّ من أن يكون الخيال مكوِّناً من مكوِّناتها الرئيسة. بيد أن قوّة الخيال ليست درجة واحدة في القصص ولدى القاصين. ويمكن التمييز هنا بين ثلاث درجات في هذه القوّة: درجة ضعيفة يحلِّق الخيال بوساطتها حرّاً في حدود الممكن، وجامحة يحلِّق الخيال بوساطتها حرّاً خارج حدود الممكن والمعقول ويدخل حقل الخرافة ويُدعى آنئذ الخيال الخرافي(23). وأعتقد بأن لفظة الخيال حين تُستعمل في الحقلين الأدبي والعلمي يُراد بها الدرجة المتوسطة التي تُبقي الحوادث والمجتمعات القصصية في حدود الممكن عقليّاً، ولا يخرج الخيال في قصص الخيال العلمي عن هذه الدرجة التي تجول في الممكن عقلياً. بل إن هذا الأمر معيار رئيس يستطيع الباحث الاستناد إليه في التفريق بين الخيال العلمي والخيال الخرافي، أو بين التصوُّر والوهم. وللأمر نفسه علاقة بواقعية القصة ولا واقعيتها. فحين يبقى الخيال في حدود الممكن عقلياً لا تخرج القصة عن الواقعية، لأن وظيفة الخيال في الدرجة المتوسطة هي النظر إلى الحاضر المجهول والمستقبل القريب والبعيد من أجل توسيع الإدراك الحالي للقارئ(24). غير أنه في وسع الخيال النظر إلى المستقبل البعيد( حتى لا تعود هناك أية رابطة بين رؤياه وبين حياة الشخص المألوفة)(25)، ومن ثَمَّ يخرج من حدود الممكن عقلياً ويدخل حدود الاستحالة العقلية أو الخرافة. وقد واجهتني دائماً نصوص قصصية ادّعت الانتماء إلى الخيال العلمي، ولكنها لدى الفحص الدقيق المستند إلى المعيار السابق خرجتْ من حدود الخيال العلمي ودخلت مملكة الخرافة.
وعلى الرغم من أن لفظة(الخرافة) تبدو منبوذة وسلبية هنا، فإن الباحث لا يستطيع الحديث عن قصة الخيال العلمي دون الاستعانة بوهم الخرافة. إذ إن هذه القصص توهم بأنها خرافية أوّل الأمر، ولكن منطقها العلمي المتماسك يقود القارئ إلى نتائج يقبلها العقل وإنْ لم يكن لها مثيل في الواقع، أيْ أنه يُدْخِلها ساحة الفكر العلمي ويُبعدها عن ساحة الفكر الخرافي مستنداً في ذلك إلىالمخزون العلمي للقاص.
وإذا كانت القصة، أية قصة، تتحدّث عن الحاضر أو الماضي، فإن قصص الخيال العلمي تتحدّث عن الحاضر أو المستقبل القريب والبعيد ولا تلتفت إلى الماضي. وهي، في الأعم الأغلب، تتحدّث عن المستقبل من أجل حفز إرادة القارئ على التقدُّم العلمي، وسأشير إلى هذه السمة التنبّوئية في أثناء حديثي عن لفظة(العلم)، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن الخيال حرّ في الزمان، يتناول الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنه في قصص الخيال العلمي يكاد يكون مقصوراً على المستقبل. وهذا وحده يُعلِّل ذكر لفظة(الخيال) في مصطلح(قصص الخيال العلمي). فالقصة بطبيعتها الفنيّة تضم خيالاً، ولكنها في قصص الخيال العلمي معنيّة بالخيال الذي يرود آفاق المستقبل، وليست معنيّة بالخيال الذي يصوِّر الماضي. ولهذا السبب اقتصرت قصة الخيال العلمي على النسق الزمني الصاعد، ولم تعرف النسق الزمني الهابط ولا التلاعب بالأزمنة كما هي حال القصة خارج حقل الخيال العلمي. وقد فرض عليها الالتزام بالنسق الزمني الصاعد التزاماً آخر بالبناء التقليدي للقصة. ولا بدَّ من توضيح هذا البناء للتمييز بين قصة الخيال العلمي وقصة الطفل وقصة الكبير في الأنساق الزمنية والحبكة والحوادث والشخصيات والسرد والحوار وغير ذلك. ويمكنني القول، في هذا الشأن، إن قصة الطفل الفنيّة تضم العناصر الآتية:
أ- الحكاية:
الحكاية، سواء أكانت للأطفال أم للكبار، مجموعة من الحوادث المرتَّبة زمنيّاً. غير أن حكاية الأطفال تمتاز من حكاية الكبار بالمحافظة على الترتيب التأريخي للزمن، بحيث تُرتَّب الحوادث ترتيباً تصاعدياً من البداية إلى النهاية دون أي تلاعب في هذا الترتيب. فالحدث الأول يعرض البيئة والشخصيّات، ويطرح بداية الفكرة الرئيسة، ثم ترد الحوادث الأخرى حاملة تفاعل الشخصيّات مع البيئة وحوادثها، فتنمو الفكرة الرئيسة وتتضح وتتأزّم ثم تؤول إلى نهاية محدَّدة معبِّرة عن المغزى بوضوح. أما الحوادث في حكايات الكبار فالترتيب التأريخي ليس شرطاً لازباً فيها، بل إنه أصبح دلالة على تقليدية القصة والرواية. وما ذكرتُه في التعريف من أن حكاية الكبار مرتَّبة زمنيّاً يعني أن الحوادث تقع حسب ترتيب زمني يرتضيه القاص، كأن يذكر الخاتمة في البداية ثم يعود إلى الوراء ليسرد الحوادث التي أدّت إلى هذه الخاتمة، أو يبدأ بالأزمة، أو يترك الحوادث تختلط وتتداعى في ذهن الشخصية، وما إلى ذلك من أمور تدخل حيّز التلاعب الفنّي بالحوادث. أما حكاية الأطفال في قصص الخيال العلمي وغيره فالترتيب التأريخي ضروري فيها، لأن الطفل غير قادر على استخدام ذكائه في أثناء القراءة ليربط بين الحوادث أو يعيد ترتيبها كما يفعل الكبير.
ثم إن حكاية الأطفال في البناء التقليدي للقصة لا تكون جيّدة ما لم توفّر للطفل التشويق وإثارة الفضول القرائي. وليست هناك طرائق محدّدة لبث التشويق في الحكاية، إلا أن الصراع شيء ضروري لتوفير التشويق في الحكاية، تليه في الأهمية إحاطة الحوادث بشيء من الغموض وبقدر من المفاجآت، وبشيء غير قليل من مخالفة توقّعات الطفل. والتشويق، في العادة، عمل فنّي صرف تابع لمقدرة الكاتب وفهمه حاجات الطفل ورغباته. وأستطيع القول إن سبب إقبال الأطفال على الحكاية الشعبية كامن في أنها ترسم عالماً موازياً للعالم الواقعي الذي يعيش الطفل فيه، يضم الخير والشر والسحر والجاذبية وقدراً كبيراً من مثيرات الخيال. كذلك الأمر بالنسبة إلى قصص الخيال العلمي، فهي تشد الطفل من خلال المتعة إلى عالم آخر مواز للعالم الواقعي، مملوء بالإثارة والمعارف الجديدة، وهذا ما يجعل الطفل يتعرّف الحياة بواقعها وآفاقها المستقبلية. وعمليّة التعرُّف التي تتقن قصص الأطفال أداءها ضرورية إذا أردنا لحكاية الأطفال أن تكون شائقة. وبتعبير آخر، فإن التشويق الذي أرجعتهُ إلى قدرة الكاتب وفهمه حاجات الطفل يعني الاهتمام بعمليّة التعرُّف والالتفات إلى أنها تؤدي عملاً تربوياً وجمالياً. إذ أن الطفل يحتاج إلى خبرات تجعله قادراً على التكيُّف الاجتماعي والتّحلّي بشخصية سليمة خالية من الصراعات الداخلية.
ب- الحبكة:
ترتبط الحبكة بمفهوم الحكاية، وهي غير مساوية للعقدة، لأنها الحوادث كما يطالعها القارئ في نص القصة، أيْ أنها الترتيب الذي يُقدِّم القاص بوساطته حوادث قصته إلى القارئ. فإذا قدَّم هذه الحوادث بحسب تسلسلها والسيي والزمني(1- 2- 3- 4... الخ) طابقت بدايةُ الحبكة بدايةَ الحكاية. ولكن القاص على تقديم حبكات لا حصر لها للحوادث التي تضمّها حكايته. غير أن تقديم الحوادث بحسب تسلسلها الزمني والسببي ملائم للطفل، أيْ أن الحبكة في حكاية الأطفال تبدأ حيث تبدأ الحكاية، ولا يُشْتَرَط هذا الأمر في حكايات الكبار. إذ إن القاص الذي يملك حكاية مؤلَّفة من ثلاثة حوادث قادر على الإتيان بست حبكات:
الحبكة |
ترتيب الحوادث |
1 |
1- 2- 3 |
2 |
1- 3- 2 |
3 |
2- 3- 1 |
4 |
2- 1- 3 |
5 |
3- 2- 1 |
6 |
3- 1- 2 |
فكيف تكون الحال إذا كان القاص يملك حكاية تضم كثيراً من الحوادث؟. إن الإمكانات وافرة للإتيان بحبكات كثيرة إذا كان النص موجَّهاً للكبار، في حين تحتاج حبكة الأطفال إلى البساطة والوضوح والتّمسُّك بترتيب الحوادث ترتيباً زمنيّاً وسببيّاً.
ت- الفكرة والمغزى والقيمة:
لا تخرج قصة الطفل عن الحيّز التربوي مهما تكن مكانتها عالية في سُلَّم الفن. إذ إن المتعة والترفيه ضروريّان للطفل، ولكنهما وسيلة القصة لأداء وظيفتها التربوية. وعلى الرغم من أننا نعلي من مكانة الترفيه والتسلية، ونحرص عليهما حرصاً شديداً ونعي وظيفتهما التربوية في تنمية شخصية الطفل، فإننا نطالب في الوقت نفسه بوظيفة تربوية أخرى تؤديها فكرة القصة، أو مغزاها، أو القيمة الواردة فيها.
فقد تعالج حوادث القصة فكرة معيّنة، كالرحلة إلى كوكب آخر في قصص الخيال العلمي، أو هجرة السنونو في الصيف والشتاء، وتعليل أشكال الحيوانات وطبائعها في القصص غير العلمية. وقد تؤدي الحوادث إلى مغزى معيّن، أو قيمة محدّدة كالحريّة والدفاع عن الأرض والوطن والعمل والصحة والتعاون وما إلى ذلك، وقد تلتقي في القصة الواحدة الفكرة والمغزى والقيمة، وقد تنفرد القصة بواحد من الأمور الثلاثة، إلا أن وظيفة القصة لا تتحقّق دون فكرة أو مغزى أو قيمة، ولا يكون تحقُّقها سليماً مؤثّراً في الطفل إذا كان طرحها مباشراً بأسلوب الوعظ والإرشاد.
ومن هنا نبعت أهميّة الأسلوب الضمني في الطرح. إذ إن الطفل ينفر من الوعظ والإرشاد، ويستعيد في أثناء قراءته القصة أو سماعه لها عالم المدرسة بما فيه من زجر وتنبيه وإرشاد(افعل كذا- اترك كذا- انتبه إلى كذا- تقيَّد بكذا- ابتعد عن كذا...).
ث- الشخصيّات:
اهتمام الطفل بالشخصية القصصية نابع من أنه يبحث دائماً عن أشياء يقتدي بها، ويرى فيها نفسه، ويحقّق من خلالها رغباته وطموحاته. ولابدَّ للشخصية القصصية من صفات تلتقي رغبات الطفل وحاجاته، وإلا فإنها تخفق في التأثير فيه. ولهذا السبب تحتاج قصة الطفل إلى الاهتمام بشخصية من الشخصيّات، بحيث ترفعها إلى مرتبة(البطل)، وتُبقي الشخصيّات الأخرى دائرة في فلكه. وبتعبير آخر، فإن البطل شيء رئيس في قصة الطفل، وكل قصة تخلو من البطولة الحقيقية تجعل الطفل يُصاب بخيبة أمل كبيرة. ذلك لأن البطل يُجسِّد آمال الطفل ورغباته، فإذا كانت الشخصيات متساوية في أهميتها أو مألوفة في الواقع، أو تفتعل المغامرة في الفضاء البعيد، خلت القصة من بؤرة شعور مركزية يقع الطفل فيها ويتمركز حولها ويقارن الآخرين بالاستناد إليها. وعيب كثير من قصص الأطفال في الوطن العربي أنها لا تهتم بالبطل، أو أنها تطرح بطولة هامشية بسيطة لا تثير الطفل، ولا تجعله يهتم بها اهتماماً حقيقياً. والخير في أن يلتزم القاص ببطل قصصي واحد، يكتب عنه قصصاً كثيرة، بحيث يراه الطفل في حالات متباينة، مما يضمن للكبار فرص تربية الطفل من خلال البطل.
بيد أن بطل القصة لا يكون مهماً عند الطفل إذا لم يكن واضحاً لديه. والوضوح هنا يعني أشياء كثيرة، أهمها أفعال البطل، إذ إن الأفعال العادية لا تشدّ الطفل إليها، فهو يحتاج إلى أفعال عظيمة فيها كثير من المغامرات والمفاجآت وتحدّي الصعاب ومقارعة الشر والأشرار. لابدَّ من أفعال ملموسة يؤديها البطل في أثناء نضاله من أجل المجتمع ومكافحته الشر، ومساعدته الصالحين والضعفاء وأصحاب الحقوق.
ومن الوضوح أن يكون للبطل اسم محدَّد، وصفات خُلُقية وخَلْقية معيَّنة. ومن السخف أن نعطي البطل رقماً كما هي الحال في بعض قصص الخيال العلمي، أو نطلق عليه صفة عامة كالحدَّاد والنجَّار ورائد الفضاء، لأن التسمية تُجسِّد ما يريده الطفل. كما أن الصفات الخُلُقية والخَلْقية ضرورية جداً تؤثّر في الطفل وتدفعه إلى التحلّي بها. صحيح أن البطل اللص أو المجرم يشدّ الطفل إليه، ويثير خياله، ولكنه، في هذه الحال، بطل سلبي ينقل قيماً لا ترضى التربية السليمة عنها. وهذه النقطة تشير إلى جانب آخر من وضوح البطل، هو نضاله الإيجابي، أيْ أن أفعال البطل تؤدي إلى شيء مثالي على الرغم من أن حوادث القصة تنقل إلى الطفل الحياة بحلوها ومرَّها. وليس هناك شيء من التناقض بين نقل الحياة بحلوها ومرَّها(أي تحقيق عملية التعرُّف) وبين قيادة القصة للتعبير عن شيء مثالي. ذلك لأننا ننقل الحياة بحلوها ومرِّها إلى الطفل لنُعرِّفه بها ونعدّه للمستقبل، إلا أننا نعي، في الوقت نفسه، أن الطفل غير قادر على تقييم الأمور بالاعتماد على عقله، وأن أحداث الحياة لا تضم دوماً انتصار الخير على الشر، فإذا عرَّفنا الطفل بواقع الحياة، وقدناه إلى انتصار الشر على الخير مقتدين بالواقع الحياتي، أصبناه بالارتباك لأنه غير قادر على تقييم الأمور والحكم عليها ومعرفة الحكم عليها ومعرف دوافعها وأسبابها ومحاكمتها منطقياً والانتهاء منها إلى انتصار الشر مؤقّت غير نهائي، وما إلى ذلك مما يعيه الكبير ويعرفه. ولهذا السبب كان النضال الإيجابي ضرورياً للقصة، وكانت قيادة القصة إلى التعبير عن شيء مثالي تجسيداً لهذا النضال الإيجابي، دون أي تناقض مع مبدأ نقل واقع الحياة إلى الطفل.
تضاف إلى الوضوح صفات أخرى، منها الجرأة وحب الخير والكرم والمغامرة، يتحلّى البطل بها لئلا يكون أحادي الجانب. فبطل قصة(قصير الذيل) لا يملك الصفات الجسدية التي تؤهّله للبطولة، فهو قزم، ولكن المؤلّف جعله على هذه الصورة ليطرح التباين بين أفعاله العظيمة وصفاته الجسدية التي لا تلفت الانتباه. إنه جريء، لا يترك أمراً قبل أن يفهمه، يتحلّى بالريث والأناة قبل الإقدام على أي عمل، ذكي، حنَّكته تجاريب الحياة، غيور، عطوف.....
ثم إن البطولة في قصص الأطفال غير مقصورة على الإنسان، فالحيوان يصلح للبطولة كما تصلح الجمادات لها. إلا أن طفل المرحلة المتأخّرة يميل إلى البطل الإنسان، لأن ارتباطه بالواقع بدأ يقوى ويشتدّ على الرغم من أنه مازال يقبل أن يتحدّث الحيوان ويفرح ويغضب، كما يقبل أن تؤدي حبة القمح ما يؤديه الإنسان في العادة. ذلك لأن الطفل لا يهتم بأنواع الأبطال بمقدار اهتمامه بأفعالهم وأعمالهم.
ومن ثَمَّ لا يعني البطلُ الإنسانُ لديه البطلَ الرجلَ فحسب، بل يعني أيضاً البطل الطفل ذكراً أو أنثى، والبطل العجوز، وإنْ كان الطفل الذكر يميل إلى الأبطال الذكور في هذه المرحلة، كما تميل الأنثى إلى البطلات، تبعاً لنمو الاهتمامات والفوارق بين الذكر والأنثى في هذه المرحلة العمرية.
أما طريقة القاص في رسم شخصية البطل فتكاد تكون مقصورة على الصورة الخارجية أو ما يُسمّى في المصطلح النقدي بالشخصية المسطّحة التي لا تنمو طوال الرواية. وسبب ذلك محافظة بطل قصص الأطفال طوال القصة على صفاته التي عرفها الطفل فيه منذ البداية، في حين تنمو الحوادث وتتبدّل وتؤول إلى نهايات معيَّنة. ومن ثَمَّ فقصة الطفل قصة(حوادث) وليست قصة(شخصية)، مما يدفعنا إلى الاهتمام بالصورة الخارجية للبطل والعزوف عن الطريقة الداخلية في رسمه(أي الطريق التمثيلية). وهذا الكلام لا يناقض الاهتمام بالبطل، ولا يؤثّر في ارتباط الطفل به، لأننا، في حقل قصص الأطفال، لا نعالج الشخصيات لنخرج منها بدلالات اجتماعية معيَّنة كما هي الحال في قصص الكبار، بل نطرح الشخصية لتتفاعل مع حوادث معيَّنة دون أن تُغيّرها الحوادث أو تدفعها إلى النمو. إن شخصية البطل في قصص الأطفال ثابتة الأفكار والعواطف والاتجاهات والمواقف، وما حولها متغيّر دائماً لا يعرف الثبات.
أما الشخصيات الثانوية في قصة الطفل فلا يوجِّه القاص إليها اهتماماً مماثلاُ لاهتمامه بالبطل، لأنها تؤدي عملاً ثم تنصرف من ساحة القصة، أو تبقى فيها ولكنها لا تتفاعل مع الحوادث تفاعلاً يجعلها تطفو على سطح القصة، وهي في المقابل ضرورية للقصة، لأنها تطرح الوجه الآخر للبطل، أو توضِّح بعض صفاته، أو تقدِّم له شيئاً من المساعدة، أو تكون نتيجة فوزه ونضاله. ومن البديهي أن تتجلّى باسم معيَّن وصفات خاصة وصورة خارجية واضحة.
ج- السرد والحوار:
لا تختلف قصة الطفل عن قصة الكبير في حاجتها إلى السرد الذي يلخِّص الحوادث بقدر قليل من الجمل، والحوار الذي يوضِّح طبيعة الشخصيات وأفكارها ويعين على نمو الحوادث. إلا أن السرد في قصة الطفل يلتزم في الغالب الطريقة المباشرة التي تجعل الكاتب يشرف على القصة من بدايتها إلى نهايتها دون أن يشعر القارئ الطفل به.
ومن المفيد ألا يبالغ القاص في السرد، فيملأ القصة به، لأن الأفعال التي يذكرها السرد تتسم بسمة الإخبار، في حين يطلب الطفل أفعالاً ملموسة تضج بالحركة.
وهناك طريقة أخرى في السرد يلجأ إليها بعض القاصين، هي طريقة السرد الذاتي التي يتحدّث البطل فيها عن نفسه، كما هي حال قصة(رائحة الوطن) لدلال حاتم. فقد تحدّثت عائدة عن نفسها مستخدمة ضمير المتكلّم على النحو الآتي:
(اسمي عائدة، أسكن مع أمي وأبي في بيت يطل على جبل عال تسكوه الأشجار).
على أن الخلاص الحقيقي من رتابة السرد يتم بوساطة الحوار الوظيفي، الواضح، القصير، الموحي. ولابدَّ في أية قصة تجمع بين السرد والحوار من متحاورين على أقل تقدير، لأن الحوار الداخلي يكاد يكون مرفوضاً في قصص الأطفال، لأنه يعبِّر عن حركة ذهنية، ويبتعد ابتعاداً واضحاً عن الحركة الخارجية الملموسة. ثم إن الحوار في قصص الأطفال وظيفي دائماً، يعبِّر عن معان توضّح أفكار المتحاورين وطبائعهم، وتدفع الحدث إلى النمو، وإلا فإنه حشو لا فائدة منه، يحسن بالقاص حذفه. أما اللغة المستعملة في السرد والحوار فيجب أن تتسم في قصص الخيال العلمي خاصة بالسمة العلمية، سواء أكان المراد هنا الألفاظ أم التراكيب أم المصطلحات. وهذه اللغة تكاد تتصف بالتشابه والتكرار من أجل ذلك(26)، وقد تتصف بالغرابة إنْ لم يكن القارئ يملك زاداً معرفياً منها، أو لم يكن المؤلِّف قادراً على توضيحها من خلال السياق.
3- العلم والخيال العلمي:
العلم هو المعرفة المنظَّمة التي تدور حول موضوع معيَّن، وتقوم على منهج مقرَّر، وتؤدي إلى نتائج وقوانين متطابقة(27). وتُطْلَق لفظة(العلم) على العلوم الطبيعية التي تحتاج إلى مشاهدة واختبار، سواء أكانت أساسية كالكيمياء والطبيعة والفلك والرياضيّات والنبات والحيوان والجيولوجيا أم تطبيقية كالطب والهندسة والزراعة والبيطرة(28). وهذه اللفظة جديدة نسبياً، لم تُكتَب لها السيادة قبل بداية القرن التاسع عشر(29) على الرغم من الإرهاصات الأولى التي ترجع إلى القرن السادس عشر. ومهما يكن أمر العلم فإن الهدف منه هو فهم العالم وتعديله وتذليله لخدمة الإنسان. ولابدَّ له من أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظرة الفلسفية العامة للعالم، لأن هذه النظرة تُسلِّحه بفهم لنظرية المعرفة ولمنهج البحث وللقوانين التي تحكم العالم الموضوعي(30).
على أن حديثي عن لفظة(العلم) ليس مطلقاً، بل هو مقيَّد بإضافة الخيال إليه، ومن ثَمَّ يظهر نوع من التعارض بين اعتماد العلم على الحقائق الموضوعية والملاحظة والتجريب، وانطلاق الخيال من الأحلام والأماني والفضول الذهني إلى حوادث ومجتمعات ليس لها شبيه في الواقع. ولا رغبة لديَّ في إعطاء هذا التعارض شيئاً من الأهمية، فقد ثبت أنه تعارض شكلي وليس جوهرياً، لأن الخيال يكمن وراء الاختراعات والاكتشافات العلمية كلها إنْ لم نقل إنه الحافز عليها والمحرِّض على الاستمرار في البحث والتنقيب عنها والتأمُّل فيها. كما أنه يكمن وراء الأعمال الفنيّة القصصية التي خلقت حوادث ومجتمعات علمية، وجعلت الإنسان يعيش فيها ويتأثَّر بها دون أن يكون لها مثيل في واقع المؤلِّفين والقرّاء. وخيال العالم والفنَّان واحد هنا، إذ إنه مرتبط بالقضايا العلمية، ومن ثَمَّ سُمِّي بالخيال العلمي تمييزاً له من الخيال الأدبي الذي يخلق حوادث ومجتمعات ليست مطابقة لما يضمّه الواقع، ولكنها لا تخرج في جوهرها وملامحها ودلالاتها عنه. والخيالان العلمي والأدبي يختلفان أيضاً عن الخيال الفلسفي الذي يخلق حوادث ومجتمعات ليس لها شبيه في الواقع ولكنها تجيب عن أسئلته الكبرى والصغرى، كتلك المدن الفاضلة عند الفارابي وتوماس مور وفرانس بيكون وادوارد بيلامي وويلز(31)، أو قصة حي بن يقظان في التراث الفلسفي العربي. كما تختلف الأخيلة السابقة عن الخيال الفنّي التشكيلي الذي يلجأ إلى الخط واللون في تجسيد أشكال فنيّة جديدة ليس لها مثيل في الواقع، كما هي الحال لدى لوناردو دافينشي(32). وليس الهدف هنا تعداد أنواع الأخيلة، بل الهدف هو الإشارة إلى أنها جميعاً تشترك في القفز فوق الواقع، وفي رسم عوالم جديدة، تبعاً لاعتمادها الخيال أساساً في حركتها. وعلى الرغم من أنها كلها مرتبطة بالواقع ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر، لأنها تتخيَّل أشياء من أجل سعادة الإنسان أو من أجل(كمال البشر الوضيع) على حدّ تعبير كولن ولسن(33)، فإن الخيال العلمي يختلف عنها في شيء جوهري هو إمكانية تحقيق النبوءة.
ذلك أن المخيِّلة المبدعة تتنبّأ دائماً، ولكن تنبّؤ الخيال العلمي يستند إلى فرضيّات أو ظواهر أو حقائق علمية تجعل النبوءة ممكنة التحقيق في منطق التفكير العلمي. أي أن التنبّؤ العلمي(بمستقبل الإنسان غير مبني على أوهام، ولا هو نابع من فراغ، لأن الأساس فيه يرتكز على ما بين أيدينا من بحوث علمية عميقة تشير إلى إحداث تغييرات جوهرية، ليس في الاختراعات التي تطوّر حياة الإنسان وحسب، وإنما في أمور أكثر خطراً من ذلك كتغيير طبيعة الإنسان البيولوجية)(34). وهذا يعني لديَّ أن هناك معياراً لفحص ما إذا كان التنبّؤ علمياً أو خرافياً، هو السند العلمي أو المعارف العلمية التي يملكها الإنسان في الحاضر، واحتمال تحقُّق النبوءة. فإذا خرج التنبّؤ عن السند العلمي والاحتمال دخل ساحة الخرافة،(فالتنبؤ بما سيصير عليه الطقس العام لكوكب الأرض لأيام قادمة ليس رجماً بالغيب، بل ينبع من علوم لها أصولها وتطبيقاتها وحساباتها ومعادلاتها)(35). كذلك الأمر في الكسوف والخسوف، إذ يستطيع العلماء التنبؤ بالموعد(بالشهر واليوم والساعة والدقيقة والثانية، ومكان حدوث هذا أو ذاك، وتقدير الزمن الذي يستغرقه الكسوف والخسوف، وهل سيكون كلياً أو جزئياً)(36) وعلى سبيل التمثيل لا الحصر نقول إن العلماء حدَّدوا موعداً لكسوف الشمس في عام 2186 على النحو التالي: (في موقع محدد بجنوب المحيط الأطلنطي سوف يسجل العلماء في هذا الزمان أطول كسوف لم يحدث مثله منذ مئات السنوات، إذ ستنكسف الشمس مدة سبع دقائق و 28 ثانية في يوم 16 تموز عام 2186)(37). وفي المقابل يُعَدُّ التنبّؤ(بنجاح العلم في المستقبل بنقل الإنسان أو الأشياء من مكان إلى مكان بسرعة الضوء- أي بسرعة 186 ألف ميل في الثانية- نوعاً من التنبّؤ الخرافي وإن تأسس ظاهرياً على فكرة علمية. فمن ذا الذي يستطيع أن يُحوِّل الإنسان من صورته المادية الحية إلى موجات كهرومغناطيسية تنطلق بسرعة الضوء، ثم تتجمع في مكان آخر وتتحول من حالتها الحية إلى جسيمات فذرات فجزئيات فخلايا فأنسجة فأعضاء فمخلوق حي كامل بشحمه ودمه ولحمه وعظامه؟)(38).