حظي موضوع الصورة الشعرية من قِبل الدارسين والنقاد في هذا العصر بما لم يحظَ به أي موضوع من موضوعات الشعر كاللغة والإيقاع والتجربة، فلا يكاد يخلو كتاب في الشعر أو الأدب أو النقد من الحديث عنها ، كما أن المكتبات العربية تحفل بعدد كبير من الكتب التي تتصدر عناوينها الصورة الشعرية ، منها ما حفل بالجانب التنظيري، وحاول تقديم مقاربة لماهية الصورة ، وأنماطها ، ووظائفها ، ومصادرها ، وعلاقتها بسائر الاتجاهات الأدبية والنقدية والفكرية المعاصرة ، ومنها ما عالج موضوع الصورة من خلال نتاج هذا الشاعر أو ذاك ، ناهيك عن كم هائل لا حصر له من الدراسات والبحوث المبثوثة في المجلات والدوريات الأدبية والنقدية ، فضلا عن الرسائل الجامعية التي لا تزال مخطوطة .
لذا يمكن الجزم بأن موضوع الصورة الشعرية يشكل لوحده في مجمل نتاج النقد العربي المعاصر حقلا معرفيا خصبا ، يحفل بعدد من الرؤى المختلفة حول مفهوم الصورة ، وقد تباينت هذه المفاهيم تباينا وصل في بعض الأحيان إلى درجة التناقض ، مما دفع أكثر من باحث إلى الإقرار باستحالة وضع مفهوم محدد للصورة ، وإلى القول بأن للصورة مفاهيم بعدد النقاد الذين درسوها .
ولا شك أن الاتفاق بشأن تعريف مصطلح أدبي كمصطلح الصورة الشعرية تعريفا محددا غاية قد لا تدرك بسهولة ، ويتنافى مع طبيعته التي تستعصي على التحديد والتقنين الصارم ، فهو مثل كثير من المصطلحات الأدبية ذو دلالة هلامية متشظية ، تتغير بتغير مفهوم الفن الشعري عبر الزمن ، كما أن القضايا التي يثيرها تتداخل وتتقاطع مع قضايا كثير من الفنون والآداب والعلوم ، لذا فإن الاختلاف فيه يبدو أمرا طبيعيا .
ولكن هذا لا يعني استحالة مقاربة ماهية الصورة الشعرية ، فمهما استعصت على التحديد ، ومهما تعددت دلالاتها عند الدارسين والنقاد ، فإن دلالتها اللغوية الأصلية تبقى حاضرة في الذهن ، وعلى هذا فالصورة من حيث هي تركيب لغوي لا تعدو أن تكون الشكل الفني الذي تبرزه الكلمات والجمل ، حين تنتظم في سياق فني خاص، أو لنقل هي تشكيل لغوي خاص ، يجسد مضمون تجربة الشاعر ورؤيته الخاصة ، في هيئة ما يمكن استحضارها ، وتمثلها في الذهن .
وهذا المفهوم يؤكد أن الصورة خاصية شعرية وغاية الفن الشعري ، فالشعر كغيره من الفنون الزمانية كالموسيقى والتصوير والنحت ، يسعى إلى تصوير المشاعر والأفكار والرؤى الخاصة بالذات المبدعة ، وهذا المفهوم ـ وإن كان يبدو مبسطا وعاما ـ لكنه من المؤكد أنه يفي بالغرض ، وبما يصلح لأن يكون منطلقا للدراسة التطبيقية .
لقد فطن عدد من الشعراء والنقاد القدامى في زمن مبكر من تاريخ النقد الأدبي إلى أن عنصر التصوير هو قوام العمل الشعري ، فمنذ عصور ما قبل الميلاد ظهرت إشارات هامة تدل على أن بعض شعراء الإغريق والرومان أدركوا أن ثمة صلة وجودية بين الشعر والتصوير ، وهذا يتضح من خلال تعريفاتهم للشعر، فقد نقل عن الشاعر اليوناني سيونيدس الكيوسي قوله بأن ((الشعر صورة ناطقة ، أو رسم ناطق ، وأن الرسم أو التصوير شعر صامت )) (1) ، كما نقل عن الشاعر الروماني هوراس تعبير من إحدى قصائده يشبِّه فيه الشعر بالتصوير، وفي مجال النقد العربي يعد الجاحظ أول ناقد يعلن أن (( الشعر صناعة ، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير )) .(2)
وتكمن قيمة هذه المقولة في أنها مهدت السبيل لدخول مصطلح الصورة إلى معجم النقد العربي ، كما أنها نبَّهت النقاد الذين جاءوا بعد الجاحظ إلى أهمية عنصر التصوير في الشعر، ولعل ما يمكن استنتاجه من تلك المقولات أن قائليها فهموا الصورة بدلالتها اللغوية الحرفية ، بحيث لم يروا منها سوى جانبها الحسي المرئي ، وهذا المفهوم منطقي يتناسب مع طبيعة المناخ المعرفي والثقافي الذي كان سائدا في العصور القديمة ، ولكن من الملفت أن ربط القدامى فن الشعر بفن التصوير والرسم ، يوحي بأنهم أدركوا ما أدركه النقاد في هذا العصر ، من أن الصورة الشعرية هي (( الشيء الثابت في الشعر كله ، وكل قصيدة إنما هي في ذاتها صورة )) (3)، فالصورة في المنظور النقدي الحديث هي جوهر الشعر وأساسه ، والمقياس الذي يميز النص الشعري الجيد من رديئه ، وهناك عدد من النقاد المعاصرين من يرى أنها تشكل مع عنصر الإيقاع عماد بنية النص الشعري ، فبهما معا تبرز شعريته، وتثرى دلالاته ، بحيث لا يمكن تصور نص شعري جيد يخلو منهما ، أو يقتصر على أحدهما .
وإذا كان الإيقاع عنصرا اختص به الشعر وحده دون غيره من فنون القول، فإن الصورة ليست مقصورة على الشعر وحده ، إذ يمكن أن تتوفر في بعض النصوص النثرية، ذلك أن المادة التي يشكِّل بها الكاتب والأديب والشاعر صوره هي كلمات اللغة ، فمتى تجاورت هذه الكلمات بطريقة فنية ، وأُفرغت من حمولتها المعجمية ، وشُحنت بحمولة من المشاعر والأخيلة ، برز عندئذ عنصر التصوير في النص الأدبي ، أو في غيره من النصوص(1)، فالصورة إذاً قد تكون سمة يتزين بها أي نص لغوي ، ابتعدت ألفاظه عن دلالاتها المباشرة ، والتجريد المحض ، لكنها في النص الشعري ليست سمة تزيينية ، أو شيئا ثانويا ، بل ضرورة فنية ، لا يمكن للشاعر تجاهلها والاستغناء عنها ، فالنص بدونها يفقد قيمته الفنية ، وتنحسر عنه جاذبيته .
لا شك أن ثمة مصادر يستقي منها الشاعر صوره ، لعل أبرزها وأهمها الخيال، فهذه الملَكة تمتلك قدرة على ابتداع صور في الذهن لأشياء غير مدركة بالحواس، وعلى الجمع والتنسيق بين الأشياء المتناقضة ، أو التي لا يربط بينها رابط ما ، وإلى جانب الخيال هناك الواقع الحسي ممثلا في المشاهد الملتقطة من الحياة اليومية والواقع الذهني ، ويشمل المؤثرات النفسية والانفعالات العاطفية بالمحيط الخاص والعام ، كما يشمل المؤثرات العقلية وما يتصل بها من الموهبة ، والثقافة ، والتجربة الخاصة ، وكل هذه المصادر تتفاعل فيما بينها حين يلم بالشاعر موقف شعوري ما ، أو انفعال بحدث من الأحداث ، وتأخذ في التشكل لغويا بوسيلة أو أكثر من وسائل الأداء الفني كالمجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ، والتشخيص ، والتجسيم ، والتراسل ، والرمز.
ومن مجموع هذه المصادر والوسائل الفنية يمكن تحديد نمط الصورة الشعرية وإذا كان من السهل تحديد نمط الصورة في الشعر الكلاسيكي قديمه وحديثه ، لكونها لا تتعدى إطار العلاقات الحسية والتشبيهية ، فمن الصعوبة فعل هذا الأمر مع الصورة في كثير من قصائد الشعر الحديث ، فهي ذات طبيعة معقدة تتشابك عناصرها ومكوناتها بشكل كثيف ، بحيث يتماهى فيها الواقع مع الخيال والحلم والرؤيا والرمز والأسطورة ، وينقلب فيها الشيء المعنوي إلى شيء مادي محس وتختفي في أنساقها الحدود الفاصلة بين الزمن الماضي والحاضر .
ومع هذا فإن ثمة شبه إجماع بين عدد من النقاد على أن أنماط الصورة هي الصورة الذهنية أو الحسية والصورة البلاغية والصورة الرمزية ، ومن هذه الأنماط تتفرع أنماط أخرى لا حصر لها ، وإذا كان المجال لا يسمح بالخوض في هذه الأنماط ، فلا بأس من الإشارة إلى أن الصورة أيا كان العنصر أو العناصر المكونة لها ، لا يمكن لها أن تتخلى عن الجمع بين البعد الحسي المادي ، والبعد العاطفي التجريدي ، وما يشوه جمالية الصورة هو اعتمادها الكلي على أحد البعدين دون الآخر .
ولئن كان المجاز والأخيلة والرموز من أبرز مكونات الصورة ، فهناك من يرى أن الشاعر يمكنه أن يبدع صورا موحية بدون استخدام تشبيهات أو استعارات أو رموز أو أي تعبير مجازي متخيل ، وذلك إذا أحسن اختيار ووضع الألفاظ والتراكيب في نسق فني مطابق لمشاعره ، ويستدل من يقول بهذا الرأي بنماذج من الشعر خلت من المجاز والأخيلة والرموز ، لكنها استطاعت تصوير المشاعر وتجسيد التجربة الشعرية ، ولا شك أن هذا الرأي لا يخلو من صواب ، لكن مع هذا نميل إلى الاعتقاد بأن التصوير المجازي هو أرقى من التصوير الحقيقي ، لأنه أكثر تأثيرا في نفس المتلقي ، وأقدر على الإيحاء .
وأيًّا كان نمط التصوير في النص الشعري حقيقيا أم مجازيا ، فالمهم هو مدى قدرة الصورة على الإيحاء بموقف شعوري خاص ، أو تجربة إنسانية عامة ، تجعل المتلقي يتفاعل معها وجدانيا، محاولا قدر جهده الكشف عن دلالاتها وأبعادها النفسية والجمالية ، ولا يمكن للصورة أن تحقق هذا التفاعل الوجداني ، وتبوح لمتلقيها بشيء له قيمة فنية ، إلا إذا اتحدت ذات الشاعر مع عناصر الوجود في لحظات انفعالية وتجليات نفسية ، وتحيل هذا الوجود بفعل (( ملكة الشاعر الخيالية إلى صورة حية ، إذ تزيح الستار المادي عنه ، وتكشف عن روحه وما يمكن وراء ظاهره ، فإذا كل ما نبصره جامدا أو ساكنا ، يتحرك بنفس إحساساتنا ومشاعرنا )) . (4)
ووفق هذه الرؤية الحديثة تبرز الصورة الشعرية بوصفها أداة كشف يتسلل بها الشاعر إلى باطن النفس ، ودهاليز الوجود المظلمة ، ليعريها ويكشف عن مكنونها ، وهي في بعض تجلياتها يضيق عليها هذا العالم الفسيح ، فتخرج من محيطه ، لتؤسس لها عالما آخر يقوم على الحلم واستشراف الآتي، واستبطان المجهول ، وبذلك تتخلى عن عفويتها وطبيعتها البُدائية الأولى التي طالما عرفت بها في مختلف مراحل الشعر الكلاسيكي ، قديمه وحديثه ، حين كانت وسيلة لمحاكاة الأشياء ، وتوضيح الأفكار وتأكيد المعاني .
ـــــــــــــــ
1 ـ قصيدة وصورة ، الشعر والتصوير عبر العصور ، عبد الغفار مكاوي ، ، عالم المعرفة ،1987 م ، ص 15 .
2 ـ الحيوان ، الجاحظ ، مصطفى البالبي الحلبي، القاهرة ،1948 م، ج 3 ، ص 132 .
3 ـ اللغة الفنية ، محمد حسن عبد الله ، ، دار المعارف ، القااهرة ،1985 م ، ص 45 .
4 ـ دراسات في الشعر العربي المعاصر ، شوقي ضيف ، ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة 5 ، غير مؤرخة ، ص 229 .