روى الترمذي وقال حسن صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:
يا غلام إني أعلمك كلمات:
"
احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت
فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا
بشئ قد كتبه الله تعالى لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ
قد كتبه الله تعالى عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف"
هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة, وقواعد كلية من أهم أمور الدين حتى قال بعض العلماء:
تدبرت هذا الحديث, فأدهشني وكدت أطيش.
فقوله
صلى الله عليه وسلم ( احفظ الله) يعني: احفظ حدودَه وحقوقَه وأوامرَه
ونواهيَهْ, وحفظُ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال, وعند نواهيه
بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوزْ ما أمر به وأذِن فيه إلى ما نهى عنه.
فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله.
ومن أعظم ما يجب حفظُه من أوامِر الله: الصلاة. قد أمر الله بالمحافظة عليها فقال:
( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)
[البقرة 238]
ومدح المحافظين عليها بقوله:
(والذين هم على صلاتهم يحافظون)
[المعارج 34].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" من حافظ عليها كان له عند الله عهدٌ أن يدخلَه الجنة" وكذلك الطهارةُ, فإنها مفتاح الصلاة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا يحافظُ على الوضوء إلا مؤمن".
ومما يؤمر بحفظه الأَيمان. قال تعالى
(واحفظوا أيمانَكم)
[المائدة 89]
: فإن الأيمان يقع الناسُ فيها كثيرًا ويهملُ كثيرٌ منهم ما يجب بها, فلا يحفظُه ولا يلزمه.
ومن
ذلك حفظ الرأس وما وعى ويدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات
وحفظ البطن وماحوى, ويتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ماحرم الله وقد جمع
ذلك كله في قوله
( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)
[الإسراء 36].
ويتضمن
أيضًا حفظَ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب ومن أعظم ما
يجب حفظه من نواهي الله سبحانه: اللسان والفرج ففي حديث أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
" من حفظ ما بين لَحْيَيْه وما بين رجلَيْه دخل الجنة".
وقال تعالى
( قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون)
[المؤمنون 1ـ2]
إلى قوله تعالى
( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم....)
[المؤمنون 5ـ6]
وقوله
صلى الله عليه وسلم ( يحفظْك) جواب للشرط الذي ابتدأه بقوله صلى الله عليه
وسلم ( احفظ الله) والمعنى: أن من حفِظ حدود الله وراعي حقوقه حفظه الله،
فإن الجزاء من جنس العمل،
كما قال تعالى
(أوفوا بعهدى أوفِ بعهدكم)
[البقرة 40]
وقال
(فاذكرونى أذكركم)
[البقرة 152]
وقال
(إن تنصروا الله ينصركم)
[محمد 7].
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما حفظُه له فى مصالح دنياه / كحفظه فى بدنه وولده وأهله وماله.
وقد يحفظُ الله ذرية العبد بعد موته بصلاحه، كما فى قوله تعالى
(وكان أبوهما صالحاً)
[الكهف 82]
قيل إنهما حُفظا بصلاح أبيهما.
فمن حفظ الله حفظه اللهُ من كل أذى. قال بعض السلف: من اتقى اللهَ فقد حفِظ نفسه، ومن ضيّع تقواه فقد ضيع نفسه والله غنىٌ عنه.
والنوع
الثانى من حفظ الله للعبد أخى المستمع وهو أشرف النوعين: حفظ اللهِ للعبد
فى دينه وإيمانه، فيحفظه فى حياته من الشبهات المُضِلة ومن الشهوات
المحرَّمة المُذِلة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان، وفى
الجملة فإن الله عز وجل يحفظُ المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحولُ بينَه وبين
ما يفسِدُ عليه دينه بأنواع من الحفظ. قال ابن عباس فى قوله تعالى
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) [الأنفال 24] قال : يحول بين
المؤمن وبين المعصية التى تجره إلى النار. وقال الحسن – وذكر أهلَ المعاصى
-: هانوا عليه فَعَصَوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم.
أخى الكريم وقوله
صلى الله عليه وسلم (احفظ الله تجده تجاهك) وفى رواية أمامَك. معناه: أن من
حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه فى كل أحواله حيث توجّه، يحوطهُ
وينصرُه ويحفظه ويسدّده (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل
128].
ثم قال صلى الله عليه وسلم : إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله، هذا منتزع من قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة
5] فإن السؤالَ هو دعاؤه والرغبةُ إليه، والدعاء هو العبادة.
قال
تعالى(وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) [غافر 60] متضمن كلامُه صلى الله عليه
وسلم أن يُسأل اللهُ عز وجل، ولا يسألَ غيرُه، وأن يُستعان بالله دون غيره.
أما السؤال فقد أمر الله بسؤاله فقال (واسألوا الله من فضله) [النساء 32]
واعلم أخى الحبيب أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعيّن المطلوب، لأن
السؤال فيه إظهارُ الذلِ والمسكنةِ والحاجة والافتقار.
وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على دفع الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع، ولا يَصلحُ الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة.
وأما
الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلْق، فلأن العبدَ عاجز عن
الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معينَ له على مصالح دينه ودنياه إلا
الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المُعان، ومن خذله فهو المخذول، نعوذ
بالله من الخُذلان.
فالعبد إذًا محتاج إلى الاستعانة بالله، فإن
طلبها أعانه الله عز وجل، وإن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره، وَكَلهُ
الله إلى من استعان به فصار مخذولاً.
قوله صلى الله عليه وسلم (واعلم أن
الأمة لو اجتمعت ..) المراد أن ما يصيب العبد فى دنياه مما يضره أو ينفعه
فكُلُّه مقدّرٌ عليه. ولا يصيب العبد إلا ماكتب له من مقادير ذلك فى الكتاب
السابق ولو اجتهد على غير ذلك الخلْق كلُّهم جميعاً.
ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم رفعت الأقلام وجفت الصحف .. رفعت الأقلام أى فلا زيادة فيما كتب ولا محو لما كتب.