[b]1- عصر الحكماء قبل سقراط :
تعود البدايات الأولى للفلسفة اليونانية إلى الحكماء الطبيعيين الأوائل وهم اثنا عشر حكيماً، يغطون الفترة بدءاً بالقرن السادس حتى النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، وتتوزعهم على التوالي: المدرسة الأيونية، والمدرسة الفيثاغورية، والمدرسة الإيلية. ويعتبر طاليس (624 ــ 546 ق.م) أشهر فلاسفة أيونية، وهو أحد الحكماء السبعة الذين ظهروا في هذه الفترة. ويميل مؤرخو الفلسفة الى اعتبار لحظة الحكماء السبعة وعلى رأسهم طاليس، هي اللحظة الأولى التي تؤرخ لولادة الفلسفة الأوروبية وبداية الشوط الأول من أشواط هذه الفلسفة .
وكانت فلسفة هؤلاء الحكماء تُعنى بإصلاح النظم والأخلاق، وقد صيغت بعض حكمهم بعبارات موجزة. ويندرج في هذه الفترة مجموعة أخرى من الفلاسفة عُرِف منهم: انكسيمندر (610 ـ 547 ق.م)، وانكسيمانس (588 ـ 524ق.م)، وهيراقليطس (540 ـ 475ق.م ) ، وفيثاغورس (572 ـ 497ق.م)، واكسانوفان (570 ـ 480 ق.م)، وبارمنيدس (540 ق.م)، وزينون الأيلي (490 ـ 430 ق.م)، وانبادوقلس (490ـ430ق.م ) ، وانكساغوراس(500ـ 428ق.م)، ولوقيبوس(440ـ330ق.م)، وديمقريطس (460 ـ 361 ق.م).
ولعل الخاصية الأساسية المميزة لهؤلاء الحكماء قولهم بالعناصر الأولية كأصل للعالم مثل: الماء والهواء والتراب والنار واللانهائي.ولم يصل شيء أساسي من أعمال هؤلاء الحكماء، وإنما أمكن التعرف على بعض آرائهم بواسطة الشذرات التي صُنفت في فترات تالية.
2- الحركة السوفسطائية:
أشاعت الحركة السوفسطائية نوعاً من الاستدلال المخاتل، الذي يقوم على الخداع والمغالطة وتزييف الحقائق . واشتهر من أعلامها بروتاغوراس (484 ـ 410 ق.م)، الذي وفد إلى أثينا سنة 450 ق.م، وظهر له كتاب فيها باسم (الحقيقة)، أثار ضده موجة من الاحتجاج واتهم جراء ذلك بالإلحاد، فحكم عليه بالموت، إلا انه هرب من الإعدام، فمات غرقاً. وكان يقول بأن المعرفة نسبية وليست مطلقة، وان لكل قضية جانبين يناقض أحدُهما الآخر، ولاشيء أصدق من شيء، لكنه قد يكون أفضل منه بالقياس إلى منظور الفرد.
كذلك برز جورجياس(480 _ 375 ق.م) من رجال هذه الحركة، الذي ألف كتاباً باسم ( (اللاوجود)، أثار فيه جملة قضايا، يذهب فيها إلى انه (لا يوجد شيء، وإذا كان هناك شيء، فان الإنسان قاصر عن إدراكه، وإذا افترضنا أن الإنسان أدرك ذلك الشيء فانه لا يستطيع إبلاغه الى الآخرين.
و بالرغم من هذا كله، هناك من الباحثين من يعتبر أن الحركة السوفسطائية تعرضت لتشويه تاريخي من طرف أقلاطون لأن مجموع ما نقل عن السفسطائيين جاء على لسان أفلاطون الذي كان معارضا لهم.
3- سقراط و أفلاطون وأرسطو
افتتح سقراط سقراط (469 _ 399 ق.م) بفلسفته مرحلة جديدة في ازدهار الفلسفة اليونانية، ومهّد لتلميذه أفلاطون تطوير هذه الفلسفة إلى مديات واسعة، انتهت إلى ذروتها على يد تلميذ الأخير أرسطو.
يرى سقراط أن الإنسان روح وعقل يسيطر على الحس ويديره، والقوانين عادلة؛ لأنها صادرة عن العقل، ومطابقة للطبيعة الحقة، وان ما في العقل من القوانين هي صورة لقوانين إلهية غير مكتوبة بل مرسومة في قلوب البشر، فمن يحترم القوانين يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان يريد الخير دائماً ويرفض الشر. وعنده أن الفضيلة علم، والرذيلة جهل، أما الدين فهو تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية، وآمن بالخلود، وان النفس متمايزة عن الجسد، ولا تفسد بفساده، بل إنها تخلص منه بالموت، لأنه سجن لها، وتعود بعد ذلك إلى طبيعتها الصافية. لقد احدث سقراط تأثيراً هائلاً في الحياة العقلية عند أهل أثينا، مما أدى إلى تآمر بعضهم عليه، فلفقوا ضده تهمة إنكار الآلهة الشعبية، وإفساد عقول الشباب، فَحُكِمَ عليه سنة 399 ق.م بتجرع السم، وقضى بعد أن تجرع سم الشوكران .
وقع أفلاطون (427 _ 347 ق.م) تحت تأثير رؤية أستاذه سقراط، وكان هو الذي احتفظ بفلسفته ودون أفكاره، لأنه لم يصل لنا شيء مما كتبه سقراط. أسس الأكاديمية سنة 385 ق.م، ومارس فيها نشاطه الفلسفي، كتب مجموعة مؤلفات ضمّنها آراءه وما تعلمه من أستاذه سقراط، وقد حظيت هذه المؤلفات بعناية كبيرة من دارسي الفلسفة والفلاسفة، وعدَّها بعض المؤرخين من أعظم الأعمال الفلسفية والأدبية في العالم. تكاملت على يديه الفلسفتان الأخلاقية والكونية، واشتهرت بنظرية (المُثُل) التي يعزوها البعضٌ إلى أستاذه سقراط .
تكاملت على يدي أرسطو (384 _ 322 ق.م) الفلسفة اليونانية فبلغت الذروة في نضوجها. ويمتاز على أستاذه أفلاطون بدقة المنهج، واستقامة البراهين، والاستناد إلى التجربة الواقعية، وهو واضع علم المنطق كله تقريباً. ومن هنا لُقِّب بـ"المعلم الأول" و"صاحب المنطق". ترك عدداً كبيراً من المؤلفات لكن قسماً كبيراً منها ضاع ولم يصل إلينا. لكن لحسن الحظ أن الذي بقي هو الجانب الأهم. يمثل أرسطو الحلقة الأهم في تاريخ الفلسفة اليونانية، فقد ظلت آراؤه الفلسفية وأفكاره الأخرى في كافة حقول المعرفة تحتل موقع الصدارة إلى عهد قريب في أوروبا. كذلك نفذ المنطق الذي وضعه في مساحة واسعة من التراث الإسلامي، ومثل مرجعية للعلوم العقلية في هذا التراث، واستعان به العلماء المسلمون كأداة في صياغة غير واحد من العلوم الإسلامية لاسيما علوم المعقول، من هنا اصطبغت الحياة العقلية لدى المسلمين بهذا المنطق ولم تفلت من أسره إلى اليوم .
4- العصر الهلينستي :
الهلينستية تسمية اصطلاحية اتفق الدارسون على إطلاقها على المدة مابين وفاة الاسكندر المقدوني (323 ق.م) وهيمنة الممالك الإغريقية _ المقدونية ( أو الممالك الهلينية على الشرق وحتى اكتساح الجيوش الرومانية لهذه الممالك وسقوط آخرها وهي مملكة مصر في عهد كليوباترة (30 ق.م).وتعني هذه التسمية التمييز بين مرحلتين من مراحل الحضارة الهلّينية (الإغريقية) قبل اختلاطها بالحضارات الشرقية وبعده، ثم أصبحت صفة لكل ما ساد في الحقبة المذكورة من تعليم وثقافة ونظم... فقد اختلطت الفلسفة اليونانية بالمعتقدات والأفكار الشرقية في هذه المدة في آسيا وحوض المتوسط، ونهض بتعليمها وصياغتها وتدوينها فلاسفة غير يونانيين، وان سكن بعضهم أثينا واتخذوا اليونانية لغة لهم، فمثلاً كان زينون (336 ـ 264 ق.م) قبرصياً، فيما كان أبيقور(351 ـ 270 ق.م) من آسيا الصغرى، وفيلون (30 ق.م ـ 50م) المنسوب إلى الإسكندرية تيسالياً. وتميزت الفلسفة في هذا العصر بانفصالها عن العلوم.
وظهرت في هذا العصر مدارس كانت من اكبر المدارس الفلسفية، وهي :
المدرسة الابيقورية : مؤسس هذه المدرسة ابيقور، اهتم بالناحية الأخلاقية العملية أكثر من اهتمامه بالمسائل العلمية، فالفلسفة عنده تعني محاولة جعل الحياة سعيدة بالنظر والمعرفة . وتتمثل السعادة لديه في اللذات الحسية والجسمية، وهذه اللذات يعتبرها الغاية في الحياة، حيثُ يقول: "تشهد التجربة بأننا نطلب اللذة، وأن الحيوان يطلبها مثلنا بدافع الطبيعة دون تفكير ولا تعليم . " فالطبيعة هي التي تحكم بما يلائمها، لا العقل الذي هو في الحقيقة عاجز عن تصور خير مجرد من كل عنصر حسي، وكيف يستطيع ذلك وجميع أفكارنا ترجع إلى إحساسات، ومن ثم إلى لذات وآلام؟ وإذا نحن استبعدنا الحس من الإنسان فليس يبقى شيء . ومتى تقرر أن اللذة غاية، لزم أن تكون الوسيلة إليها فضيلة، وان العقل والعلم والحكمة تقوم بتدبير الوسائل وتوجهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة، فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة، شريفة أو خسيسة، لان كل لذة خير، وكل وسيلة إلى اللذة خير، بشرط أن تكون اللذة لذة، وان تكون الوسيلة مؤدية إلى لذة)
المدرسة الرواقية : أسس هذه المدرسة زينون الكتيومي، و سميت بالرواقية لأن مؤسسها زينون كان يدرس تلامذته في احد الأروقة. ولد زينون في مدينة كتيوم من اعمال قبرص، وكان أبوه تاجراً يؤم أثينا ويشتري منها الكتب ليقرأها ابنه. وفي سن الثانية والعشرين قدم إلى أثينا واستمع إلى معلميها. كان زينون خشن الطبع والخلقة، يأكل الطعام نيئاً ولا يشرب إلا الماء القراح، ولا يبالي بالحر أو البرد أو المطر . نادى الرواقيون بأن الناس جميعا إخوة، وان العالم كله مدينة الله. وكانت النزعة الأخلاقية قد طبعت آراء الرواقيين، حتى يمكن القول إن دعوتهم كانت أخلاقية. وقد جاءت هذه الدعوات ردَّ فعل على حياة الترف التي انزلق إليها ملوك الدويلات اليونانية فيما وراء اليونان.
مدرسة الإسكندرية : انتقل مركز الدراسة والبحث من أثينا إلى مدينة الإسكندرية بمصر، التي أصبحت أهم مدن الاسكندر الجديدة، بعد أن احتضنت الفلاسفة والعلماء ورجال الدين اليهودي والمسيحي، الذين وفدوا إليها من بقاع شتى، فتلاقحت في أروقة مدرستها مجموعة تيارات الفلسفة اليونانية مع المعتقدات اليهودية والمسيحية، مضافاً إلى موروث الحضارات والأقوام الشرقية .
واشتهر في هذه المدرسة طائفة كبيرة من العلماء والفلاسفة من أمثال الجغرافي (اراتوسثنيس) الذي عمل لبعض الوقت أميناً عاماً لمكتبة الإسكندرية الكبرى، والرياضي (اقليدس) الذي كان يعلم الرياضيات في هذه المدرسة، والرياضي (ابولونيوس)، و(ارخميدس) الذي تعلم فيها أيضا . وفي الإسكندرية ظهرت الأفلاطونية الجديدة، التي تمازجت فيها عناصر تنتمي إلى الحضارات البابلية والفارسية والمصرية القديمة، مضافاً الى الحضارة الهلينستية والمعتقدات اليهودية والمسيحية . ويعزى تأسيس المدرسة الأفلاطونية الجديدة إلى (امونيوس ساكاس) الذي لتتوفر معلومات بشأنه إلا انه أستاذ أفلوطين (204 _ 270م) الذي هو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد . ولد أفلوطين في مصر ودرس في الإسكندرية ومكث فيها حتى عام 243م، وانتهى أخيرا إلى أن يستقر في روما ويقضي فيها ما تبقى من حياته، بعد أن رحل من مصر إلى بلاد ما بين النهرين، للتعرف على ميراث الحضارات الشرقية في رفقة جيش الإمبراطور (جورديان الثالث) الذي قاد حملة ضد الفرس، بيد أن أفلوطين فر من بلاد ما بين النهرين عام 244 م بعد مقتل الإمبراطور وهزيمة الجيش أمام الفرس