النبَأ العَظيم نظراتٌ جَديدَة في القرْآن الكَريم
المرحلة الأولى من البحث
البحث عن مصدر القرآن
بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الخلقية من تاريخه.
أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعته شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟
فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه- أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟
سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم؛ فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئًا في السماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة.
ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيه للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم. ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضًا بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمدًا قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرنًا، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟! إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1 {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} 3 {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 4 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 5 {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 6.
لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدراسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررًا في القرآن.
حتى الأرقام .. طبق الأرقام: فترى مثلًا في قصة نوح -عليه السلام- في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية. وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" وهذا السنون التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية. قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر. فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
نعم؛ إنها لعجيبة حقًّا: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم -في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم مشغولًا برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعيًا بالأجر، أو تاجرًا بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من
__________
1 سورة آل عمران: الآية 44.
2 سورة يوسف: الآية 102.
3 سورة القصص: الآية 44 وما بعدها.
4 سورة العنكبوت: الآية 48.
5 سورة هود: الآية 49.
6 سورة يوسف: الآية 3.
أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وربما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم1. أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجًا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة. وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة وأقرب فهمًا لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} 2 {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 3.
ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 4.
ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.
فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقًّا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث
__________
1 القماطر: جمع مفرده: القمطر، وهو ما تصان به الكتب.
2 سورة الأنعام: الآية 105.
3 سورة الفرقان: الآية 5.
4 سورة يونس: الآية 16.
أن ينهار أمام الاختبار.
ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه. فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزًا في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدس, وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة. وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام.
فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟
ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد:
"أحدهما" قسم العقائد الدينية.
"والثاني" قسم النبوءات الغيبية.