المركزية واللامركزية في الإدارة أشبعت بحثا على المستوى العلمي، وقد بين المتخصصون في علم الإدارة فوائد اللامركزية في نمو المنشأة أو الجهة التي تعتمد هذا الأسلوب في الإدارة، بافتراض وجود الشروط الضرورية للنجاح. أن ما يعنينا هنا هو العلاقة بين المركزية والتكاليف الاقتصادية وقتل الإبداع والذي يعتبر أهم العوامل لتحقيق النجاح الاقتصادي وتحقيق الكفاءة الاقتصادية لأي جهة تتبنى اللامركزية.
يعتمد مفهوم المركزية باختصار على تركز الصلاحيات بيد عدد محدود في المنشأة التجارية والقطاع الحكومي، ونزع الصلاحيات عن بقية الموظفين مهما علا شأنهم، مما يؤدي إلى تركز القرارات بيد العدد المحدود الذي سمح لنفسه بالتفرد بالقرارات بحجة مسؤوليتهم المباشرة أمام الجهات المعنية أو ملكيتهم للمنشأة. وفي الغالب تتركز الصلاحيات في يد المسؤول الأول في الجهاز الحكومي أو الخاص، حتى أنه هو المعني بالتوقيع على إجازات الموظفين بجميع درجاتهم الوظيفية! وفي الغالب دافعهم لذلك قد يكون مبررا أو غير مبرر. فمثلا انعدام الحوكمة والأنظمة والقوانين التي تحدد دور كل مسؤول في داخل الجهاز وحدود مسؤوليته، والأنظمة العقابية والجزائية في حالة مخالفته، تسهم في تخوف الإدارة العليا وتركز الصلاحيات في يدها. كما أن ضعف الأجهزة القضائية والتنفيذية في تنفيذ الأحكام الصادرة على مستغلي الصلاحيات، يحجّم كثيرا من المنشآت في إعطاء الصلاحيات لمن هو دون المسؤول الأول. لكن في أحيان عدة هذه الشروط الضرورية للتحول من المركزية إلى اللامركزية متوافرة، ومع ذلك تحجم الإدارة العليا في تفويض الصلاحيات لأسباب شخصية (مصالح خاصة يجنيها المسؤول من تركز السلطة في يده) أو عدم ثقة بمن هم دونه في الهرم الوظيفي أو عدم كفاءتهم، أو الطبيعة البشرية في حب التسلط والإحساس بالأهمية، لأنه لا يوجد في هذه المنشأة من يستطيع أن يتخذ قرارا من دون موافقته ومباركته فالجميع تحت رحمة قراراته، أو هي نتاج ما تم ذكره جميعا!
إن المركزية بما تعنيه من سحب الصلاحيات وتجميد القرارات إلا بعد موافقة الشخص المعني تؤدي إلى قتل كامل للإبداع إلا في شخص صاحب الصلاحية وانخفاض في كفاءة العمل وارتفاع التكاليف الاقتصادية. حيث تؤدي المركزية إلى تجميد الكفاءات في المنشأة إلى بعد مباركة صاحب الصلاحية. فبدل أن يكون في المنشأة عدد أكبر من المبدعين جمدت إمكاناتهم إلا من خلال صاحب الصلاحية. هذا يؤدي لا محالة إلا عدم الرغبة في المشاركة الإبداعية في المنشأة، فإذا المنشأة ضخمة، فإن الأفكار الإبداعية التي ترسل للمسؤول الأول للحصول على الموافقة منه، تأخذ وقتا أطول قبل الموافقة عليها والتي قد تعدمها ميزتها التنافسية في الوقت. ويشكل ذلك عائقا للمشاركة. يمثل الوقت الذي تستغرقه أي عملية تكلفة اقتصادية تتحملها المنشأة. ففي حالة المركزية يتحتم على أي مسؤول في داخل الجهاز مخاطبة الرجل الأول في الجهاز الإداري الذي يعمل فيه للحصول على الموافقة والتي تستغرق وقتا أطول من الحالة الطبيعة في حالة حصول هذا الشخص على مسؤولياته.
والمحصلة النهائية للمركزية قتل للإبداع داخل الجهاز، حيث الرسالة الضمنية التي يرسلها المسؤول الأول في الجهاز لبقية المسؤولين هي عدم الثقة بقراراتهم وإمكاناتهم العلمية وانحصار ذلك في شخصه الكريم. فتنعكس هذه الرسالة غير المباشرة سلبا على الولاء داخل الجهاز والرغبة في المشاركة الفاعلة والإبداع. كما تؤدي إلى زيادة التكاليف الاقتصادية غير المبررة التي تتحملها المنشأة بسبب الوقت الذي يستغرقه إنجاز أي مهمة، والحاجة إلى وجود عدد أكبر من الموظفين للصادر والوارد في داخل هذا الجهاز، مما يؤثر سلبا في الكفاءة الاقتصادية للمنشأة، حيث تتحمل المنشأة تكاليف أعلى للمخرجات نفسها. بينما في حالة اللامركزية وانعدام مثل هذه التكاليف الإضافية، فإن المنشأة تستطيع الوصول إلى كمية الإنتاج نفسها من المخرجات بتكاليف أقل.
وفي حالة أن المركزية هي الحالة السائدة التي تنتشر بين مؤسساته الإنتاجية الحكومية والخاصة، خاصة في القطاع الحكومي، فإن المجتمع بأسره يتحمل تكاليف إضافية بسببها، مما ينعكس على تحقيق نمو اقتصادي أقل، وضعف في القدرة التنافسية على المستوى المحلي والدولي، ورداءة في الخدمات المقدمة من قبل هذه الجهات، وتحجيم لإمكانية المجتمع وقدراته. ولتشجيع الاتجاه إلى اللامركزية في الجهات الخاصة والحكومية، فإن الجهات التنظيمية في البلد مطالبة بوضع الأنظمة والقوانين التي تحفز مثل ذلك. فانخفاض التكلفة الاقتصادية التي تتحملها المنشأة من مقاضاة مستغلي الصلاحيات، وسهولة وسرعة تنفيذ الأحكام ضدهم، يسهم في توجه المنشآت إلى اللامركزية للفوائد الاقتصادية التي تجنيها من مثل هذا التوجه، والذي يرفع من كفاءة الاقتصاد المحلي ويخفض التكاليف التي يتحملها المجتمع. ولذا فالحكومة، كذلك، مطالبة بالتحول إلى اللامركزية ووضع الأنظمة العقابية الصارمة على من يستغل الصلاحيات المعطاة له وتنفيذها. فلا معنى لتحميل المجتمع تكاليف اقتصادية غير ضرورية بسبب المركزية الحكومية، والتي تشكل أحد أسباب ضعف الأجهزة الحكومية وانخفاض كفاءتها.