أهميّة العِلم والعمل لخدمة الإنسانيةهناء ثابت - باحثة في الدراسات الإسلامية
ها نحن نضع بين يديك أيها القارئ الكريم اللآلئ النفيسة ونقدّم لك من جواهر العلوم والمعارف ما يهيئ لك بناء التربية الصحيحة في نفوس أولادك وأهلك ومجتمعك على أحسن وجه، من خلال ما سطَّره الإسلام من تعاليم لأجل توفير أحسن الرعاية الطيّبة لكلّ البشرية، وما يؤهّل لكلّ سالك الخروج من المآزق الحرجة والمسالك الضيّقة سالمًا مسلمًا.
فما أنت فاعل؟ بعد أن هديت إلى الرشاد، وعلمت ما لم تكن تعْلَم، أنت مطالب بعد أن اقتنيت هذه المجموعة الضخمة من الجواهر الثمينة، ببناء المستقبل الأخلاقي الباسم، والإسلام يطالبك بدفع الثمن!!
أتدري ما ثمن هذه الحِكَم والمواعظ؟؟ الثمن هو التنفيذ والتطبيق.. الثمن هو العمل بعد العلم.
فيا بناة المستقبل: ثمن العلم هو العمل، وهو سلوك الطريق السوي بعد الاهتداء على ضوء مصابيح الهداية، هو السير في مضمار العناية بالأخلاق وفق المناهج المخططة للسير المستقيم:
العلم والعمل محورا السير وشريكان في قرن لا يصلح أحدهما بدون الآخر، ومَثَلُ العلم كالمصباح المنير ومَثَلُ العمل كالشّخص الفَذ البصير، فمتى استضاء البصير بالنور تركّزت لديه قواعد الحياة وفق مناهج السير السوي ونالت الإنسانية رغبتها في سبيل مجد المستقبل!!
روي عن عمّار بن ياسر "رضي الله عنه" قال: بعثني رسول الله " صلى الله عليه وسلم" إلى حي من قيس أعلّمُهم شرائع الإسلام فإذا قوم كأنّهم الإبل الوحشية، طامحة أبصارهم، ليس لهم همّ إلاّ شاة أو بعير، فانصرفت إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" فقال: «يا عمّار، ما عملت؟» فقصصت عليه قصّة القوم وأخبرته بما فيهم من السّهوة.
فقال: «يا عمّار، ألا أُخبِرك بأعجب منهم؟ قوم علموا ما جهل أولئك ثم سهوا كسهوهم».. فعمّار بن ياسر يعجب من إنسانية ضيّقة لا تعرف في الحياة من هم لها أكثر من الشاة والبعير وانغماس في حدود هذه المادّية الضيّقة.. الشاة أو البعير وتفتنها موارد هذه الثروة عن متابعة الهدف الإنساني في العلم، ويأسف عمّار أسفه الشديد على هؤلاء، فإذا برسول الإنسانية يأخذ أسفه هذا ويتناوله بالصّياغة الحكيمة ويقول له: «ألا أُخبركَ بأعجب منهم؟ قومٌ علموا ما جهل أولئك ثم سهوا كسهوهم» أي: عرفوا ما جهل أولئك ثم مازالوا يدورون في فلك التخلّف عن التنفيذ والتطبيق فكانوا والجاهل سواء في طمس معالم الطّاقة الإنسانية عن انطلاقتها التحررية نحو النجاح الموفّق المرتقب!! وليسوا سواء في المسؤولية.. مضيع على علم، وضائع على جهل!! فالعلم من شأنه أن ينير شعلة الوجود الإنساني لابتكار أيسر السبل نحو حياة أفضل.
والعالم من شأنه أن يتّخذ الإجراءات العملية لخدمة الإنسانية وفتح الأبواب التي أغلقها الجهل فإذا تعلّم المتعلّم ثم تنكّر للعمل فيكون مضيعًا على عِلم وليست هذه الصفة شيمة الفكر الوضّاء والعقل المتحرر.
كان سيّدنا عيسى عليه الصلاة والسلام يقول: «مثل الذي يحمل العلم ولا يعمل به كمثل الأعمى يحمل سراجًا ليستضيء به غيره».
وقال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «مثل الذي يُعَلّم الناس الخير وينسى نفسه مَثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق نفسها أو كالسّراج يضيء للناس ويحرق نفسه»، وقال " صلى الله عليه وسلم" : «إنّ أناسا من أهل الجنّة ينطلقون إلى أُناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل!!»
لذا حَرص السلف الصّالح عند العلم أن يكون العمل قرينه ورفيقه وقالوا: غاية العلم العمل.. وإنّ العمل نتيجة لازمة للعلم وإلاّ كان العلم عبثًا من العبث، وليًّا للعلم عن قصده من الصلاح والإصلاح وخيانة ظاهرة للمجتمع يستحق عليها صاحبها المقت من الله ومن الناس، والأحاديث الشريفة صوّرت عِظم المسؤولية غدًا لِمن هجروا العمل ولبسوا زينة القول فقال " صلى الله عليه وسلم" : «كل علم وبال على صاحبه إلاّ مَن عمل به»، وفيما رواه الإمام أحمد عن منصور قال: نبّئت أنّ بعض من يلقى في النار يتأذّى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك ما كنت تعمل؟ ما يكفينا ما نحن فيه من الشّر حتّى ابتلينا بك وبنتن ريحك، فيقول: كنت عالِمًا فلم أنتفع بعلمي.
وقال " صلى الله عليه وسلم" : «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس وعَدَّ النبي " صلى الله عليه وسلم" من جملتها: علمه ماذا عمل فيه؟ أي ماذا عمل فيما علم».
وعن الحسن قال، قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «ما من عبد يخطب خطبة إلاّ الله عزّ وجلّ سائله عنها أظنّه قال: ما أراد بها؟ وكان مالك بن دينار: إذا حدّث بهذا الحديث بكى طويلًا ثم يقول: تحسبون أنّ عيني تقرّ بكلامي عليكم وأنا أعلم أنّ الله عزّ وجلّ سائلي عنه يوم القيامة، ما أردت به؟
وفي الحديث الشريف «أنّ الرجل لا يكون مؤمنًا حتّى يكون قلبه مع لسانه سواء ويكون لسانه مع قلبه سواء ولا يخالف قوله عمله و يأمن جاره بوائقه».
وكان أبوالدرداء يقول: إنما أخشى من ربّي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبيك ربِّ، فيقول: «ما عملت فيما علمت؟».
ومتى أدركنا هذا الهدي النبوي علمنا كيف أنّ السلف الصالح تباطأوا في الاستظهار إذ كان قصدهم الأجلّ هو استظهار العمل لا لوك اللسان وتكرار الرواية.. روى الإمام مالك في الموطأ: أنّه بلغه أنّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها.. وذكر عبدالله عن أبيه عمر قال تعلم أبي عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلمّا ختمها نحر جزورًا.
وكفى بالقرآن معلّمًا ومطالبًا المؤمنين بالعمل بما علموا إذ قال سبحانه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} – (الصّف: 2-3).
وهزّ القرآن جانب العقل الإنساني لاستطلاع النتائج المترتّبة على ترك العمل بعد العلم فقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).
وذكر الله سبحانه من شأن الدّاعي أنّ خلايا وجوده وحقيقة نفسه تنطق بما يقوله لسانه فقال حكاية عن شعيب صلّى الله عليه وسلّم إذ نصح قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)، فطبّق ونفّذ شعيب ما يقوله لهم من قبل أن يدعوهم إليه.
قال قاضي القُضاة (أبويوسف): كنت أمشي مع أبي حنيفة فقال رجل لآخر، هذا أبوحنيفة لا ينام الليل، فقال أبوحنيفة: والله لا يتحدّث الناس عنّي بما لم أفعل.. فكان يحيي الليل صلاةً ودعاءً وتضرّعًا، فأبوحنيفة العالِم العظيم، منار الفقه الحنفي، كان الفضل في انتشار علْمِه وتفتّح روضه- عمله بما عَلِم وورعه أن يقول الناس عنه ما ليس فيه، ومن أثر هذا الإلزام لنفسه أن تراءت له الحقائق ونفذ نور بصيرته إليها فطبق شرق الأرض وغربها ذكره وسارت الركبان بأقواله، كان يرى أن من الفقه العمل قبل القول.. فهذا سبب النجاح الباهر الذي كسبه في حياته من الأصالة في الرأي والنباهة في الذّكر، فممّا جعله صاحب الرياسة في الفقه إلزام نفسه بالتنفيذ العملي لِما كان تَعلّم أو يُعَلِّم، فالعالِم الذي يغبط على علْمِه هو الذي يكون مخزونه الاحتياطي من العمل أكثر بكثير من أقواله حتى تكون له في آفاق مجتمعه الأرصدة الضخّمة من ثمرات عِلْمِه يجني هو أوّل ما يجني من بركتها كما يجني الناس من ثمراتها.
وقد ضرب رسول الله " صلى الله عليه وسلم" مثلًا للّذي تحلّى بآداب دين الله عِلْمًا وعملًا فأفاد واستفاد وأينع زهره وترعرع روضه كما ضرب مثلًا للّذي هوى وغوى ولم يقبل هدي الله ولم ينتفع بتعاليم السماء.. فقال " صلى الله عليه وسلم" : «مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمَثَل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيّبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل مَنْ فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ» (رواه البخاري ومسلم).
ففرق عظيم بين أرض فيها من كلّ فاكهة زوجان أي تحفظ الماء ليشرب منه الإنسان والحيوان وبين أرض انتزعت منها الفائدة ولم يُبارك الله فيها فلا تنبت إلاّ العذاب والخراب وحرمان الإنسان والحيوان من نفعها وفي جنباتها العذاب الأليم!
ومن هنا يتبيّن عظيم المسؤولية ومقدار الدّقة في وضع البرامج العلمية ويظهر على مسرح الحياة عظيم المسؤولية على من يلي الإشراف على هذه المناهج والبرامج فعليهم تلْقى مهمّة إيقاظ العزائم لدى روّاد العلم أن يشتاقوا للعمل مع العِلْم وعليهم توجيه الأنظار واختيار الأساليب المبتكَرة في حلقات الدراسة ليلبس الطالب لبوس النفع من العِلْم ويفهم كيفية الوصول إلى ثمراته وحل معضلات الحياة على ضوء ما تحصل لديه من معرفة وعِلم مثمر، والأمانة العلمية ستطالب النشء الصّاعد بتقديم أحدث النتائج المترتّبة على عِلْمهم حتى لا تتخلّف الأمّة عن مسايرة ركب الحضارة ولتكون في مصافّ الأمم الحيّة المنتجة التي تركّز العلم لديها على قواعد العمل الراسخ المفضي إلى ازدهار مطرد.
فالعالِم السطحي الذي يبقى وراء بريق الأقوال وحشو الدّماغ بالنظريات الفارغة يشقى وتشقى به أمّته، وقد استعاذ " صلى الله عليه وسلم" بالله من عِلْمٍ لا ينفع وقال " صلى الله عليه وسلم" : «إنّ أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالِم لم ينْفَعه عِلْمه».
وصلّى الله عليه وسلّم مُعَلّم الناس الخير ورسول الهدى والإنسانية القائل: «ما اكتسب مكتسِب مثل فضل عِلْمٍ يهدي صاحبه إلى هدى أو يردّه عن ردى وما استقام دينه حتى يستقيم عَمَله».
وقال " صلى الله عليه وسلم" : «مَنْ عَمِلَ بما عَلِم أورَثه الله ما لم يعْلَم».